الكتابة الساخرة لها مزايا ، ولها عيوب .. من مزاياها أنها تعلمك الاحترام ، ومن عيوبها أنها تحرمك من عطف الآخرين ، ولذلك - إذاكنت من فئة الكتّاب الساخرين - فإنك ستكسب الاحترام ، وتخسر العطف ، وهذا يجعلك بين الكتّاب وعلى رأسهم ، وفي مقدمتهم كلما أشرقت الشمس ، وفي متناول أيديهم ، وقريباً منهم إذا غربت الشمس. والشروق والغروب بشكل خاص جزء من أدوات الكاتب الساخر لا يستغني عنهما ، ولا يستغنيان عنه مهما كان ، ومهما جرى ، ومهما حدث ، ومهما صار. ومن شروط الكاتب الساخر أن يرى الدنيا من حوله بعينين كاملتين ، وعندما يدخل في لعبة الورق والقلم ، أن يكتب بعين واحدة ، وأذن واحدة ، وأن يكون نظيف اليد ، وأن تكون مصالحه الشخصية رهينة لدى التاريخ إلى أن تدفعه الظروف - أو تنقله إلى بحثها ومناقشتها والتعرف عليها ، فيدخل في حوار مع هذا التاريخ يكشف له مدى ما يفعله الناس حين يتركون مصالحهم رهينة لدى التاريخ ..! ومن يرى الدنيا بعينين ، ويكتب بعين واحدة يشعر بالمتعة التي ليس بعدها متعة: متعة التقريب ، ومتعة التبعيد ، متعة التوازن ، ومتعة عدم التوازن ، متعة اللهو ، ومتعة الجد ، وكلها من الصور التي تنعكس على بعضها البعض عن الكاتب الساخر حين يدخل لعبة الورق والقلم بهدف السخرية ، وليس بهدف التصدي للكتابة نفسها .. والسخرية - وهي مادة جميلة من مواد الأدب والفن - تعتبر من المطالب الضرورية للحياة حيث يحتاجها المرء في عمله ، والموظف في مكتبه ، والمرأة في بيتها ، والمدرس في مدرسته ، والأستاذ في جامعته فهي التي تجعلك ترى الأشياء عن قرب ، وعن بعد بشكل لا يتسنى لك أن تراه بدونها ، وتجعلك تتأنى ، وتتأمل قبل أن تصدر أحكامك على تفاهة ما حولك، ومن حولك ، ومن هو معك، ومن هو ضدك ، ولماذا تستمر التفاهة فترة أطول من عمرها الافتراضي ، ولماذا تغيب (وسائل الردع) عن مباشرة دورها في كشف هذه التفاهة ، ووضع حد لاستمرارها ، واسترسالها، وانغماسها .. والتفاهة (ارتفعت ، أو انخفضت) لا يستطيع التصدي لها ، ومواجهتها إلا الكاتب الساخر ، ولا يستطيع الاجابة عليها إلا الكاتب الساخر ، ولا يستطيع أن يتندر عليها ، ويخرج لسانه لها إلا الكاتب الساخر (وهو إذا لم يفعل ذلك ، ويقوم به يكون أول المتضررين الذين عليهم أن يدفعوا ثمن انتشار التفاهة بالطول ، والعرض ، وهو يتحمل مسؤولية التنبيه عنها ، والتحذير منها. فإذا لم يصغ له أحد فهذا يزيد من حجم مسؤوليته ، ولا ينقص منها حتى لو دخل في دور تحد معها) ..! والكتابة الساخرة فوق أنها فن رفيع المستوى ، عالي القيمة إلا أنها لا تجد الحماية (الكافية ، واللازمة) لمنع الدخلاء من ارتياد ساحتها ، ولا تجد في نفس الوقت (التشجيع الكافي) لاستمرار مسيرتها بعيداً عن (العراقيل ، والعقبات). وبقدر ما يكون دخول الغرباء ساحتها مؤلماً ، وبقدر ما يكون غياب التشجيع عنها مؤثراً ، فإن ذلك يمنحها (وقوداً جديداً) ودافعاً لاستمرار العطاء ، واستمرار الأمل ..! إننا نعتقد - ونرجو أن نكون محقين في اعتقادنا - أن الكتابة الساخرة هي (الفاكهة الأولى) للصحافة ، ويجب ألا تخلو موائدها منها ، بل يجب أن تتصدر هذه الفاكهة المائدة الصحفية بكل ما فيها من فواكه (كثير منها بلا طعم ، ولا فائدة باستثناء أنها - تملأ - المائدة).