الثورات التي اجتاحت وتجتاح عدداً من الدول العربية ، وبعض دول العالم كالصين وغيرها ، تضع بين أيدينا تجربة جديدة تحتاج إلى قراءة وتأمل ؛ فهي صفحات مكتوبة ، مليئة بالمواقف والأحداث ، وفيها من المواعظ والعِبَر ما لا يصح أن يمرَّ دون قراءة وتأمل . تابعتُ بشيء من التركيز ما يتحدث به بعض مَنْ شاركوا في تلك الثورات ، وأسهموا في قيامها ، وسعوا إلى بلوغ أهدافها ، وهم - غالباً - من فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة والثلاثين ، وقد تنقص عن ذلك أو تزيد ، فوجدت أنهم قد كوَّنوا قناعة لا تقبل التشكيك بأن الأنظمة السياسية التي ثاروا عليها قد شطحت عن الطريق الصحيح لإدارة شؤون البلاد والعباد ، واستبدَّت بمصالح البلاد ، واستأثرت بخيراتها ، بل زاحمت عامة الناس في أرزاقهم وأعمالهم ، وشكَّلت زُمراً من أصحاب الضمائر الميتة ، والأطماع والمصالح الشخصية ، أصبحوا هم اليد (السوداء) التي تضرب الناس باسم الدولة والسلطة ، بل زادت على ذلك بأنها أرهبت الناس وأرعبتهم بواسطة ما يُسمَّى بأجهزة (أمن الدولة) ، أو الأجهزة الأمنية الخاصة ، حتى أصبح كل مواطن في تلك الدول معرَّضاً لاتهامه بقضية ما زوراً وبهتاناً ، ودخوله في سراديب سجون تلك الأنظمة الموحشة وجلسات محاكماتها المرعبة . ومما يثير الإعجاب في أحاديث أولئك الشباب أنهم واضحون الوضوح كله ، مدركون لأبعاد ما يتحدثون به ، وأنهم - وهذا هو المهم - محبُّون لبلادهم وأوطانهم ، متعلقون بها ، بل محبون لدولهم ، حريصون على استقرارها ، وأنهم - أيضاً - يتحدثون بحرقة واضحة على ما آلت إليه أحوال بلادهم ، ويعاتبون عتاباً قاسياً أحياناً ، رقيقاً أحياناً أخرى ، رؤساءهم الذين أسرفوا في الظلم والاستبداد حتى أجبروا الناس على الوصول إلى هذه الحالة من النفور والثورة ، وما زال يرنُّ في أذني صدى كلمات ذلك الشاب المصري ذي العشرين عاماً حين قال: (وأنا الآن أخاطب رئيس مصر المخلوع قائلاً: أما كان الأولى بك أن تحمل الأمانة التي وضعها الله في عنقك حملاً صحيحاً ، وأن تراقب الله في إدارة مصر ، وهي أكبر دولة عربية ، إدارة تحقق بها العدل والإنصاف ؟ ماذا استفدت الآن ؟ وماذا ستقول لربك حين يسألك عن كل صغيرة وكبيرة ؟ لقد دفعتَ بنا إلى القيام بثورة سلمية نطالب فيها بحقوقنا المشروعة ، ولو أنك أعطيت الناس حقوقهم ، وعدلت وأنصفت ، لأرحتنا مما جرى ، وأرحت نفسك من هذه الخاتمة التي لا تَسُرّ) . كلام يتكرر على ألسنة عشرات الشباب في تونس ، وفي مصر ، وفي اليمن ، وفي سوريا ، وفي ليبيا ، بل وحتى في الصين وبعض الدول الإفريقية . إنه فقدان (العدل والإنصاف) الذي أشعل تلك الثورات ، وهذا درس من دروس ما حدث يجب أن نتأمله بعمق ، ونقرأه قراءة متأنية فاحصة ؛ فبالعدل قامت السماوات والأرض ، ولا يتحقق العدل إلا من خلال شعور الحاكم بعظمة المسؤولية ، وضخامة الأمانة ، ولا ينقض العدل إلا الظلم والاستبداد ، والشعور بالتميز والتعالي على الناس ، ولعل من عَمَى البصيرة عند الظالم أنه ينسى في غمرة مصالحه الشخصية ، ولذة حياته المترفة ، أنه يعرِّض نفسه للزَّوال والانتزاع مباشرة ؛ لأنه - بالظلم - يستعدي ربَّ العالمين ، وكيف يطمع في انتصار ونجاح في حياته مَنْ أصبح الله سبحانه وتعالى له خصيماً ؟ إن لسان كل ثورة تقوم ضد ظالم طاغية يردد: (أين العدل والإنصاف ؟) ، وهو سؤال خطير للمتأملين . درس (العدل والإنصاف) واحدٌ من عشرات الدروس التي يمكن أن نستخلصها مما جرى ، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء . إشارة: إنْ طاب للمرء أنْ يُبدي تجبُّرَه=فلن يغالب جبار السماوات