وقفتُ وقفة تأمل طويلة أمام قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (ما أبالي أصبحت على ما أحب ، أو على ما أكره ، لأني لا أعلم الخير فيما أحب ، أو فيما أكره) ؛ فوجدت فيها من الإشراق ما يبدد ظلام الحسرة والوهم والشك ، ويطرد أشباح اليأس والقنوط ، ويملأ آفاق النفس المؤمنة بأنوار اليقين والاطمئنان والالتجاء إلى الله تعالى في كل موقف. إنها مشكاة الدين الحق التي لا تنطفئ مهما تهب عليها أعاصير الحياة. إن الفاروق البطل - رضي الله عنه - يرسم لنا بمقولته هذه لوحة الثقة بالله ، وقد لونها بألوان الإيمان بالله ، والثقة بعدله في حلمه ، وإنصافه في قضائه وقدره ، يرسمها لنا بوضوح كامل ، يضع المعنى بين أيدينا بدون رتوش: (ما أبالي) نفي صريح يؤكد أن التسليم لله سبحانه وتعالى قد بلغ غايته ، وثبت في النفس واستقر في القلب فما يتزحزح ولا يتزلزل ، ولا يتردد ولا يتململ ، فعمر يؤكد بنفيه هذا أن قلبه مطمئن إلى قضاء الله ، وأنه يؤمن بأن الخيرة فيما يختار الله ، فهو إن أصبح على ما يحب مما تتوق إليه النفس راضٍ الرضا كله ، وإن أصبح على ما يكره مما تنفر منه النفس راضٍ الرضا كله ، لماذا هذا الرضا المطلق في الحالتَيْن ؟ يجيب عمر بقوله: لأني لا أعلم الخير ، فيما أحب ، أو فيما أكره ؟ هنا يريح المؤمن نفسه ، ويزيح عن كاهله هموم الحياة وآلامها. وما وقفت وقفة تأملي الطويلة أمام هذه العبارة إلا لأن قائلها هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الرجل الذي عاش الحياة بعزم وإصرار ، وكان من الذين يخوضون غمار الحياة غير متخاذل ولا متردد ، فهو ليس من المنزوين عن العمل ، المستسلمين للكسل ، بل كان يبذل جهده في الحصول على لقمة العيش كغيره من الناس ، ويسعى في بذل الأسباب غير متكاسل ولا متواكل ولا متخاذل ، وهنا يتجلى الفَهْم الصحيح للحياة ، فهو مع هذا اليقين المطلق بأن الخيرة فيما يختار الله يعمل ويجتهد ، ويترك النتائج بيد الله سبحانه وتعالى ، فإن جاءت على ما يحب رضي وشكر ، وإن جاءت على ما يكره رضي وصبر ، وليس هذا إلا للمؤمن. إنه عمر الذي شارك في الغزوات ، وتولى الخلافة ، فكان أنموذج الخليفة العادل المنصف من نفسه ومن أهله إنصافاً بهر قادة الفرس والروم ، وتحقق به للناس ما يتوقون إليه من العدل والأمن والاستقرار. إنه عمر الذي قال - لما رأى بعض المتكاسلين عن العمل -: (إن السماء لا تُمطر ذهباً ولا فضة) ، وكان يأمر من حوله بالتبكير في طلب الرزق قائلاً: (قوموا انظروا إلى أرزاقكم ؛ فهذا وقت تُقسَّم فيه الأرزاق) . وما وقفتُ أيضاً وقفة تأملي الطويلة أمام هذه الحكمة العمرية إلا لأنه تخرَّج من مشكاة القرآن والسنة ، ففي القرآن يقول الله سبحانه وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْه لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّه يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وهذا ما أكده عمر بقوله: (لأني لا أعلم) . وفي السُّنة يقول عليه الصلاة والسلام: (عجبت لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن) . فما أحوجنا إلى هذا اليقين الذي تستقر به النفوس ، وتطمئن القلوب. إشارة: إن كان واقع هذا العصر يؤلمني=فإنَّ سالف أمجادي يُسلِّيني