من الأمور المسلمات التي يؤمن بها أبناء منطقة الباحة أنها تمتلك مقومات النجاح على كثير من الأصعدة الطبيعية والبشرية ، ومن ضمن تلك المسلمات التي يؤمنون بها أيضاً أنها (أي الباحة) للأسف حرمت ولا زالت محرومة الاستفادة من كثير من هذه المقومات ؟! ولعل أبرز ما حرمته في تصوري هو ذلك النجاح الواسع الذي حققه كثير من أبنائها اقتصادياً وعلمياً ولكن على خارج أرضها ولم تنل منه للأسف إلا أقل الحظ والنصيب ، وبالرغم من إيماني العميق بقضية الوطن الواحد الكبير وضرورة البعد عن التفكير المناطقي الضيق إلا أن الانتشار المهول لأبناء الباحة الاقتصاديين والمتعلمين والباحثين في المناطق الأخرى القريبة والبعيدة يبعث في النفوس التساؤل إذن متى تنال منطقتهم شيئاً من إسهاماتهم تبعاً للعرف الشرعي والعقلاني والاجتماعي السائد بأن الأقربون أولى بالمعروف ؟! وإذا لم يكن لهؤلاء الدور المأمول في تنميتها وهم أبناؤها والأعرف بها والأحق بها والأقدر على ذلك فقولوا لي بربكم من الذي يقع على عاتقه هذا الأمر ؟! وإن سبب تركيزي على الاقتصاديين والباحثين يعود إلى أنهم هم الذين يملكون أدوات التغيير والتطوير المطلوب لتحقيق التنمية المأمولة في الباحة ، فالاقتصاديين بطبيعة الحال يملكون المال والخبرة اللازمة في تشغيله ، وإن نجاح رجال الأعمال من أبناء المنطقة على مستوى المملكة أمر ملحوظ للقاصي والداني ومنذ عشرات السنين ، وبالمثل ينطبق الحال على عشرات ومئات الباحثين والأكاديميين من أبناء المنطقة الذين كان لهم دور فاعل ورئيسي في النشاطات العلمية والبحثية في كليات وجامعات الوطن الكبير ، ولذا فإن مساهمة هؤلاء الاقتصاديين والباحثين لمسقط رأسهم ولو كانت قليلة سيكون له أثر إيجابي بلا شك في سريان الطاقة مجدداً في جسدها النحيل ، والجهود القليلة من قبل الجميع يمكن أن تتضافر وتحقق النجاحات الكثيرة التي من شأنها أن تقلب المعادلة رأساً على عقب بمشيئة الله وتجعل الباحة منطقة جاذبة لا طاردة كما هو واقع حالها الراهن. والجميل في الأمر وكما ذكرت في مقدمة مقالي أن منطقة الباحة بها مقومات طبيعية فريدة من نوعها ومن الممكن أن توفر فرص استثمارية يشترك فيها الاقتصاديون والباحثون في آن واحد ، الاقتصادي بجزء من ماله والباحث بجزء من علمه ووقته ، وهذا التعاون له صوره العديدة ومن أبرزها ما أصبح يتردد على مسامعنا بالمراكز البحثية و كراسي البحث العلمية التي تتبناها الجهات العلمية والبحثية كالجامعات ، حيث أنه من الممكن أن يساهم الاقتصاديون والباحثون في تبني مشروعات علمية أو اقتصادية مشتركة تدعم المنطقة وذلك من خلال ما تمتاز به في الأساس من مقومات زراعية مثلاً أو تعدينية أو سياحية أو تراثية تاريخية وقس على ذلك. ولمزيد من التوضيح حول صور هذا التعاون الذي تنشده وتحتاجه منطقة الباحة ، ومن خلال طبيعة تخصصي ومعرفتي المتواضعة فإنني سأضرب أمثلة تتعلق بالفرص الزراعية والبيئية الممكنة ، وأبدأ مثلاً بشجرة البن العربي الذي تمتاز بعض جبال المنطقة بإنتاجه ماضياً وحاضراً والذي هو من أجود أنواع البن على المستوى العالمي وبمزيج من الدراسات العلمية والاقتصادية فإن الباحة قد تكون مؤهلة لإنتاجه وتسويقه محلياً ودولياً وخصوصاً أنه تجارة معروفة ومربحة منذ القدم ، وقس على ذلك أشجار اللوز ومحصولها الوفير الذي كانت تمتاز به المنطقة في الماضي والتي لم يبق منها إلا أطلال من الأشجار والذكريات مع أن اللوز أيضاً من التجارات المربحة على المستويين المحلي والعالمي ، وكذلك النباتات العطرية كالريحان والكادي والبعيثران والورد وغيرها من النباتات التي ينمو ويزدهر بعضها في السراة والبعض الآخر في تهامة وبمزيج آخر من دراسات الجدوى العلمية والاقتصادية فإن المنطقة قد تتمكن قريباً من إنتاج وتصدير بعضاً منها على إما على هيئة ورود وشتلات أو روائح عطرية ، وكذلك شجرة الموز الذي عهدناه في أصدار المنطقة وتهامتها والغريب أنه لم ينل حظه من الاستثمار الزراعي في حين على سبيل المقارنة نجد الموز اليمني منتشراً في أسواقنا ، وأما العسل وما أدراك ما العسل ؟ فالباحة موطنه سراة وتهامة ، ورغماً من عراقة تاريخ العسل في الباحة إلا أنه وحتى يومنا هذا لم يتم إنتاجه بشكل اقتصادي مدروس ، فلا زالت جهود النحالين فردية لا ترقى لمسمى الإنتاج والصناعة المتكاملة ، ولا أدري ماذا ينقص الباحة لكي تنتج هذا الغذاء المبارك بشكل علمي اقتصادي متكامل؟ أضف إلى ذلك ثمار الخوخ والرمان والمشمش والعنب والتوت البري والسدر والزيتون وغيرها من النباتات الاقتصادية المربحة بكل المقاييس الزمانية والمكانية. وأما من الناحية البيئية فمن بديهيات القول أن الباحة تمتلك غابات طبيعية بكر وهي التي تشكل حالياً عصب السياحة بالمنطقة ، ولكن التعامل مع كثير منها حالياً يتم بشكل غير مدروس علمياً وبيئياً مما ينذر بكوارث محتملة جداً كالقضاء على الغطاء النباتي النادر منه وغير النادر ، ومنها زيادة رقعة الصحراء على رؤؤس جبال الباحة ؟! وزيادة خطر انجراف التربة ورفع معدل خطر السيول والكوارث وفقدان الأرواح ؟! فضلاً عن اختراق أملاك وخصوصيات القرى والعوائل والأفراد ؟! في حين ينبغي أن يتم التعامل مع هذه الغابات بحساسية شديدة هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى لا يجدر بنا أن نهدر كل هذه الغابات وأن نتعامل معها بالطريقة النمطية فقط عن طريق فتح الشوارع وإقامة الملاهي وتوفير المظلات للسائحين وبعض الخدمات الضرورية ، بل علينا أن نتجه إلى ما هو أرقى في التعامل البيئي والسياحي ومن ذلك جعل بعض هذه الغابات منتزهات طبيعية مستدامة عن طريق تقليل تدمير الغطاء النباتي على قدر المستطاع بل والعمل على إعادة استزراعه وتدعيمه ، إضافة إلى توفير مساحات كافية لإعادة توطين الكائنات الحية المهاجرة أو الهاربة وربما الموشكة على الانقراض والتي كانت تعيش يوماً ما في تلك الغابات ، وإقامة منتزهات وحدائق حيوانية ونباتية مفتوحة فيها وبشكل علمي اقتصادي مدروس على غرار ما هو معمول به في كثير من المنتزهات الطبيعية في كثير من دول العالم ، وتشجيع الاستثمار في مناحل العسل ومشاتل الأشجار المثمرة والزهور والورود ونباتات الزينة حتى يتعود الناس على شرائها وتزيين حدائق منازلهم وشوارعهم بها لتعود الباحة زهرة الجنوب الفواحة ، ومن الناحية البيئية لم يعد يخفى على أحد بعض المخاطر التي تتعرض لها المنطقة سراة وتهامة مثل خطر هجرة السكان وخطر التوسع العمراني على حساب الغابات واقتلاع الأشجار المعمرة النادرة وانقراض الحياة الحيوانية الفطرية ، وخطر إنجراف التربة وأخطار السيول في السراة وفي تهامة وإتلاف الأرواح والممتلكات وما قد يتلوها من أخطار تجمع المياه وتكاثر الحشرات ومن ثم الأوبئة والأمراض المعدية وقس على ذلك من الأمور التي هي بحاجة لدراسات وأبحاث علمية واقتصادية للاستفادة منها في جعل الباحة منطقة آمنة صحياً منتجة اقتصادياً وعلمياً وقادرة على احتضان أبنائها الحاليين وفتح سبل العودة لمن هاجر منهم. وكل هذه الأمثلة التي ذكرتها آنفاً هي غيض من فيض مما تملكه هذه المنطقة العزيزة على قلوبنا وهي أقل ما تستحقه من أبنائها وما ترجوه منهم ، والمطلوب من المقتدرين اقتصادياً وعلمياً أن يردوا جزءاً من الدين لمنطقتهم عن طريق المساهمة في استثمار هذه المقومات لتحقيق مستقبل أفضل للمنطقة وأهلها ، وأكرر مرة أخرى بأن إحدى صور النجاح الممكنة هو التعاون المأمول بين الاقتصاديين وبين الباحثين الأكاديميين ، وذلك إما بإقامة مراكز بحثية دائمة كمركز لأبحاث العسل مثلاً أو مركز لأبحاث البن العربي أو مركز لأبحاث اللوز أو مركز لأبحاث السيول أو مركز لأبحاث الغابات وقس على ذلك ، أو على الأقل بدعم بعض المشاريع البحثية والكراسي العلمية التي من شأنها أن تكشف النقاب عن مثل هذه المقومات وكيفية استغلالها استغلالاً مستداماً أو مثل هذه المشكلات والعمل على حلها حلاً جذرياً. والموضوع باختصار هو عبارة عن تبرع مادي سخي يقدمه الاقتصادي لمجموعة من الباحثين الأكاديميين المختص منهم بالعلوم الطبيعية والمختص منهم بالشئون الاقتصادية ، وذلك من أجل القيام بدراسات وأبحاث رصينة لدراسة هذه المقومات والخروج أولاً بدراسات وتصورات علمية واسعة حولها أي واقعها الحالي والمأمول منها ، ثم تقديم دراسات جدوى علمية واقتصادية لأصحاب القرار السياسي والاقتصادي حيالها كي يتم استثمارها بالشكل المناسب ، على أن تعطى الأولوية بطبيعة الحال للداعمين الرئيسيين لهذه الأبحاث ، وهنا أؤكد على ضرورة أن يكون هناك مزيج من الباحثين الطبيعيين منهم والاقتصاديين حتى ينتجوا لنا أبحاثاً ودراسات جدوى متكاملة غير مبتورة وإلا فإنها قد لا تبرح أدراج المكاتب أو أرفف المكتبات ؟! وعن طريق التبرعات العديدة المتوقعة إن شاء الله من المقتدرين ستعج الباحة ذات يوم بعشرات المراكز البحثية والكراسي العلمية التي ستكون وبلا شك نواة لتطوير تنموي فريد من نوعه على الصعيدين المحلي والدولي إن صدقت الجهود وتضافرت ، وقد أثبتت تجارب البلدان المتقدمة تنموياً أن البحث العلمي الرصين هو طريق النجاح الأمثل والأسرع . ولذا فإنني أشرف بأن أدعو المسئولين في المنطقة وعلى رأسهم أميرها الكريم صاحب السمو الملكي الأمير مشاري بن سعود بن عبد العزيز وكافة أبناء المنطقة ممن يسكنون فيها أو خارجها إلى التركيز على قضية اللجوء للبحث العلمي وللباحثين العلميين فإن بمقدورهم في حال تعاون الاقتصاديين معهم أن يرسموا خارطة طريق جديدة للباحة تحمل في طياتها حلولاً جذرية مستدامة لمشاكلها ، حيث أنه لم يعد يخفاكم أن الحلول المستعجلة المبنية على دراسات وقرارت سريعة وآنية لم تجدِ ولن تجدِ ، وهي أيضاً الفرصة السانحة والاختبار الحقيقي للراغبين والمقتدرين من أبناء المنطقة الاقتصاديين والباحثين الأكاديميين للمشاركة في تنميتها حتى ولو لم يكونوا مقيمين فيها ، وهذا في تصوري هو من أقل القليل الذي تنتظره منهم منطقتهم ولنا أسوة في بعض مناطق المملكة الأخرى التي حظيت بتنمية متوازنة منذ عقود من الزمن بفضل الله سبحانه ثم بدعم سخي من الحكومة الرشيدة سددها الله ثم بحرص ووفاء أبنائها الذين يتواجدون في المؤسسات الحكومية وفي الجامعات وفي القطاع الخاص. ------------------------------- مبتعث حالياً لدراسة الدكتوراة جامعة إيست أنجليا – المملكة المتحدة