عندما بلغت نفس عميد أسرتنا الحلقوم ، وقبل أن ينطق الشهادة التي بعدها فاضت نفسه إلى ربها ، كانت سبابته اليمنى تتحرك ذات اليمين وذات الشمال كبندول الساعة ، وهو يردد بصعوبة بالغة : (لا تتركوا قدح اللبن تحت الشجرة) لم نشأ أن نزيد من معاناته بكثرة السؤال عما يعنيه ، فظروفه لا تسمح بذلك ، ولكننا تركنا الأمر لله ثم للزمن الذي لا يخبئ الحقيقة. في صبيحة يوم من الأيام نهض عبدالرحمن ذلك الطفل الذي لم يبلغ الحلم من فراش نومه منزعجًا ، مكفهر الوجه ، يبدو على ملامحه الرعب الشديد ، ارتمى في حضن أمه ، وهو يجهش بالبكاء ، ويحاول أن يشرح لها ما شاهده في منامه. إنها دويبة صغيرة لونها أخضر ، وظهرها محدودب ، ترفع يدها اليمنى ببطء شديد وتضعها بهدوء على الغصن ، ثم ترفع الأخرى وتضعها كذلك ، تحرك جسمها إلى الأمام ثم إلى الخلف قبل أن تخطو نحو الهدف ، وكأنها تجري التحمية لوثبة طويلة تتخطى بها كل الحواجز ، وعندما رجعت إليها ثانية وجدتها غيرت لونها إلى الأغبر ثم الأصفر ثم الأحمر ، وعينيها تدوران في كل اتجاه ، وتنظر إلي بنظرات مخيفة. ضحك الأب الذي كان متكئًا ينصت باهتمام إلى عبدالرحمن وهو يقص قصته ببراءة ، ثم اعتدل في جلسته ، وقال مطمئنًا ولده كما يقول مفسروا الأحلام في السراة عندما يعجزون عن تفسير أحلامهم (حلم وتراه) هذه يا عزيزي الحرباء ، وهي دابة قذرة أُفضِّل مقابلة الحية الرقطاء على مقابلتها ، ولكنها لا تلدغ كالثعبان أو العقرب تحب اللبن ، وستراها كثيرًا في حياتك المديدة إن شاء الله فلا تنزعج. كان موسم الحرث قد حل ، وبدأ الناس يستعدون لحرث مزارعهم وبذرها . حمل والد عبدالرحمن أدوات الحرث ، وذهب مبكرًا إلى الوادي وبدأ العمل ، وقبل القيلولة بقليل حضرت زوجته بالخبزة والقدح المملوء باللبن تحملهما على رأسها ، وعندما وضعتهما تحت الشجرة ، جلست تنتظر زوجها ، الذي أوقف سانيته وجلس متربعًا لتناول الفطور. قبل أن يضع اللقمة في فمه نادى منادٍ بأعلى صوته : هيا أحضرا حالًا فقد سقط عبدالرحمن من السطح وهو يحتضر ، هبا من توهما وتركا كل شيء في مكانه ، وعندما وصلا إلى حيث نادى المنادي ، كان عبدالرحمن يحرك سبابته اليمنى ذات اليمين وذات الشمال ويردد بصوت خفي لا يكاد يسمع - لا تتركوا قدح اللبن تحت الشجرة - بعدها نطق بالشهادة ، وأسلم الروح لربها. كان هول المصيبة كافيًا لأن ينسيا قدح اللبن وغيره، ومدة العزاء كانت هي الأخرى كافية كي تصل تلك الدويبة إلى قدح اللبن. لم تقتحمه مباشرة خشية أن يندلق أو تسقط فيه فتغرق وتموت ، ولكنها فضلت أن تتسلق الشجرة ، عندما استوت على الغصن المقابل للقدح أرسلت لسانها الذي وصله بسهولة فقد كان طويلًا جدًا ، ولغت فيه ، وتركت بعض لعابها ، وما هو إلا أسبوع واحد حتى كان سطح القدح يموج بأفراج كثيرة ذوات ألوان مختلفة، وأحجام متعددة ، وعيون تدور في كل اتجاه.