يا بابا اليوم فصلنا يجنن، نظيف ومرتب وهادئ وما فيه مشاغبات وكل البنات شاطرات ويشاركن مع الأبلة، تدري ليه يا بابا؟!) بهكذا سؤال افتتحت ابنتي (لمى) التي تقطف غيمتها الثامنة ظهيرة مكة القائظة عند دخولها السيارة، ومؤشر الضجر في الروح ينافس مؤشر حرارة الطقس في ميزان السيارة! أجبتها باستغراب: ليه يا بابا؟! قالت: «المديرة كانت عندنا، والأبلة أمرت الطالبات بتنظيف الفصل وتزيينه، حذرتنا من الكلام دون استئذان، وفهمتنا على الأسئلة وحفظتنا الأجوبة، وعلمتنا كيف نتصرف قبل ما تجي المديرة..» ثم تساءلت بدهشة طفولية: «ليه تسوي الأبلة كذا بس إذا زارتنا المديرة؟!» لم يكن الجواب محيرا، لكنه كان واقعيا ومحزنا، وحاولت إقناع ابنتي الصغيرة أن هذه ثقافة مجتمع تجذرت فيه هذه الشكليات، وترسبت في أعماقه أساسيات هذا الكذب العملي والنفاق الوظيفي! وقد ذكرتني هذه الحادثة بقصة حدثني بها المشرف التربوي رجب الجمل في إحدى زياراته الإشرافية لأحد المعلمين، حيث استغرب من تفوق جميع الطلاب، ليكتشف بالمصادفة أن المعلم الذكي قد انتقى الطلاب الأذكياء والمتميزين من جميع فصول الصف وجمعهم في فصل واحد! وما هذا إلا نموذج مصغر ينسحب على الكثير من مظاهر حياتنا الاجتماعية، فالمعلمة تجامل وتكذب على المديرة، والمديرة تكذب على المشرفة، والمشرفة تقوم بذات الدور على مدير التعليم، ومدير التعليم يحابي ويجامل أي مسؤول على مستوى الوزارة، وهذا على مستوى التعليم، وقس على هذا الوضع ما تشاء من القطاعات. فعند زيارة مسؤول لأية منطقة؛ انظروا إلى الشوارع المحفرة والأرصفة المتهدمة والحدائق المهملة.. كيف تتحول بين عشية وضحاها و(بغدرة غادر) إلى مدينة نموذجية؟! لافتات ترحيبية وأضواء كرنفالية وأجواء فرائحية تغسل كآبة المكان وشيخوخة الزمان ولو بشكل مؤقت! على حد علمي .. تظل نغمة «كل شي تمام»، هي المعزوفة السائدة لدى الكثير من الجهات الحكومية المتمثلة في منسوبيها الصغار أمام المسؤولين، لتعمّق مفهوم الفساد الإداري والمالي بشكل أو بآخر! وعلى حد حلمي.. أدرك أن هناك استثناءات مضيئة، وكفاءات مشرقة، ولكني في عين الوقت.. ما زلت أتساءل: كيف نستطيع أن نعلم أولادنا الصدق وأن نربيهم على القيم الإنسانية العظمى؛ مثل الأمانة والإخلاص ومراقبة الله في القول والعمل، ونحن نكرس الكذب والنفاق الوظيفي في نفوسهم بهكذا تصرفات؟!.. ويكفي.