كلّنا نحب بلادنا هذه، منطلقاتنا في حبّها والتضحية لأجلها يختلط فيها العامل الديني والإنساني،ولعل هذه ميزة لا تتوفر لبلاد غير هذه البلاد فالانتماء إليها لا ينفرد به شعور الإنسان بالامتنان لها – بعد الله – فيما يتمتع به من نعم كثيرة،ولا الروابط التي تشدّه إلى ثرى هذه الأرض عميقا في أحشائها،بل إنّ هذه البلاد ينتمي إليها كلّ مسلم شاء ذلك أم أبى،لأنّ الله هكذا أراد حين جعل فيها مهوى أفئدة المسلمين وقبلتهم وقبر نبيّهم صلى الله عليه وسلّم . فكرة الوطنية والشعور بالمواطنة أمر جميل،خصوصا حين يكون توظيفه نابعا من شعورنا الديني واستشعارنا بالمسؤولية الأخروية في المحافظة على كيانه الكبير والتضحية لأجله بالغالي والرخيص ومن قتل دون نفسه أو ماله أو أرضه فهو موعود بالشهادة . لكنّي للأسف ألحظ أنّ هذا الشعور والشعار تحوّل في يد بعض الأقلام الصحفية المتبرئة من الأدلجة إلى سوط يجلدون به مخالفيهم،أصبحت الوطنية والمزايدة عليها في خطاب هؤلاء نوعاً من أدوات الإرهاب الفكري،فإذا نصَحَ ناصِح أو انتقَدَ ناقِد فأوّل سيف يُشهر في وجهه هو سيف الوطنية،حتّى لو كان الموضوع أصلاً لا تعلق له بالوطنية إلاّ بمجهود جبار يقوم به بعض (غير المؤدلجين) لمدّ حبل وصله بالوطنية . الدولة حفظ الله ولاتها رغم أنّها الأمينة أمام الله وأمام الخلق على الوطن ومكتسباته لم تجعل فكرة المواطنة فكرة سخيفة مبتذلة يجرّها كلّ أحد لتوظيفها في معركته ضد خصوم مُفترضين يعيشون في مخيلته هو وحده . يطرح أحدهم فكرة تأجيل الدراسة لأجل أنفلونزا الخنازير فيُجرم وطنياً،ويقترح طلاب بعد سيول جدة تأجيل الدراسة في جامعة الملك عبدالعزيز فيهب قلم من هناك يذكرهم بالوطنية،يتكلّم عالم بما أدّى إليه اجتهاده في مسألة تحتمل تعدد الرؤى والآراء فتُقام حفلات اللطم وشق الجيوب والبكائيات على الوطنية . إنّه نوع من ابتذال القِيَم عبر الإصرار على تكراراها في كلّ جملة وسجال وفكرة حتّى بتّ والله أخشى أن تكون هذه الممارسة سببا في تنفير الناس من الفكرة برمتها . إنّه الغلوّ داء كلّ فكرة وعلّة كلّ منهج،فالغلوّ في الدين عبر حشره في كلّ شيء حتّى في المسائل التي سكت عنها الشرع لا يقلّ عنه الغلوّ والوسوسة في فكرة المواطنة حتى تُسلّط على فِكْر أهل الفِكر وعِلمِ أهل العلم وهذا والله هو الذي ينبغي الخوف منه على فكرة الوطنية كقيمة يجب تنميتها وتحبيب الناس فيها سلوكا واقتناعا لا تنفيرهم منها بترهيبهم وكتم أنفاسهم بها ، والله الموفق .