القضاء من أصعب المسالك، إن لم يكن أصعبها، فبه يصلح حال الناس، وبه يسوء إن غابت عنه مقومات العدل وسمات القسط. وعن ذلك يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: (القاضي كالغريق في البحر الأخضر إلى متى يسبح وإن كان سابحًا). ولما أراد عمر بن هبيرة أن يولي أبا حنيفة القضاء، أبى فحلف ليضربنّه بالسياط وليسجننه، فضربه حتى انتفخ وجه أبي حنيفة ورأسه من الضرب، فقال: (الضرب بالسياط في الدنيا أهون علي من الضرب بمقامع الحديد في الآخرة). وقال حفص بن غياث لرجل كان يسأله عن مسائل في القضاء: (لعلك تريد أن تكون قاضيًا... لأن يدخل الرجل إصبعه في عينيه فيقلعهما ويرمي بهما خير له من أن يكون قاضيًا). وكم من مواقف محرجة تعرض لها القضاة حتى مع عدلهم وصدقهم، فهذا القاضي الشعبي جاءته امرأة جميلة فادعت عنده فقضى لها، فقال هذيل الأشجعي. فتن الشعبي لما فع الطرف إليها فتنة ببنان كيف لو رأى معصميها ومشت مشيا رويدًا ثم هزت منكبيها فقضى جورًا على الخصم ولم يقض عليها فتناشدها الناس وتداولوها حتى بلغت مسامع القاضي، فأمر بضرب قائلها 30 سوطًا عقابًا له وزجرًا لأمثاله. ولو أردنا التوسع في مفهوم القضاء لأدركت محاذيره فئات كثيرة من الناس، فالمعلم قاض بين تلاميذه، وأستاذ الجامعة قاض في القاعة التي يدرس فيها، والرئيس في العمل قاض بين مرؤوسيه، والأب قاض في داره، والقائمة تطول. لكن تظل ولاية القضاء بمفهومها الدقيق محصورة في المحاكم الشرعية وما يدخل في حكمها، والجهات المرجعية التي تسيرها كوزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء ومحاكم الاستئناف وغيرها. القضاء ابتلاء في الدنيا شديد، فطوبى لمن اجتازه في الدنيا لأن سعادته في الآخرة بغير حدود، فكم من حق مسلوب أعاده لصاحبه! وكم من مظلوم رفع ظلامته! وكم من مسكينة مسح دمعتها ولملم جراحها! وكم من مقهور أعاد إليه بسمته! أولئك نسأل الله لهم الدرجات العلى والفردوس العظيم.