تثير بعض الأسئلة من المعلومات ما يؤكد لنا صحة ما قال السلف (حياة العلم المذاكرة)، وهذا ما صنعه سؤال وجهه إليّ (بدويٌّ يعشق الصحراء والإبل) على حد تعبيره، وذلك عبر اتصال بالهاتف الجوال، كان اتصالاً طريفاً كطرافة صاحبه، فقد بادرني بالسلام والسؤال، ثم قال: أنا بدويٌّ أعشق الصحراء، وأحب الإبل، وأرى في حياة البادية من الجمال، ما لا أراه في المدينة الصاخبة مهما كان تطورها، ثم قال ضاحكاً: ليتك تراني الآن بين (الإبل) أسير بقدمين حافيتين، وفي يدي الجوال الذي أكلمك منه، وأمامي كثبان الرمال حتى ترى صورة عجيبة طريفة لبدوي يعيش في هذا العصر، يمزج بين حياة البداوة الرائعة ومنتجات الحضارة المعاصرة البديعة. كنت أستمتعُ بكلامه وتلقائيته، وفخامة العبارات التي تخرج من فمه، ولولا شوائب العامية المفرطة لكان كلامه أمتع حديث سمعته ذلك اليوم. ثم قال: اتصلت مسلِّماً، وسائلاً، فقلت له: أما سلامك فأقول لك مقابله وعليك السلام ورحمة الله، وأما سؤالك فعجِّل به مشكوراً لأنني مشغول. قال: أبشر، ولكن اسمح لي بسؤال قبل سؤالي الذي كلمتك من أجله، قلت: ولكنني مشغول، قال: وعن الشغل أسألُك، قلت: ألا ترى أن هذا ليس من حقك، قال: أرجو ألا تفهمني خطأً، فلن أسألك عن نوع مشاغلك وإنما عن انتشار كلمة مشغول بين الناس بصورة عجيبة، مع أنَّ كثيراً منهم ليس مشغولاً شغلاً واضحاً، خصوصاً أنتم يا دكاترة (يا كثر مشاغلكم). لقد كان يتحدث بتلقائية جميلة، ولكنني كنت مشغولاً فعلاً، فقلت له: أنا مشغول حقيقة لا مجازاً ولولا ذلك لأطلت الحديث معك مسروراً بهذه التلقائية التي نكاد نفقدها في خضم الحياة المعاصرة الملأى بمشاغلها التي لا تكاد تنتهي. قال: اعذرني، وتحمل إطالتي عليك وخذ سؤالي: سمعتك في أمسية شعرية تتحدث عن ابتعاد الناس عن لغة القرآن، وغرقهم في اللهجات العامية التي انتشرت انتشار النار في الهشيم، فهل اللغة العربية الفصحى لازمة لنا في حياتنا اليومية، وهل هي قادرة على متابعة (فتافيت الحياة) الكثيرة جداً التي تحتاج إلى آلاف الكلمات؟ وإذا كانت لازمة فكيف يمكن أن أتعلَّمها وأنا غارق في بداوتي وعاميتي، وسجيتي التي لا تكلُّف فيها. قلت له: سؤال مهم لن أتمكن من الإجابة عنه في هذه المكالمة إجابة مفصلة ولكنني أقول لك باختصار: نعم، العرب في عصرنا هذا انصرفوا كثيراً عن لغتهم العربية الغنية بمعانيها ومبانيها، وهو انصراف ناتج عن ضعف شعورهم بأهمية لغتهم في بناء حضارتهم، وتحقيق تقدمهم الإيجابي الذي ينفي عنهم صفة التبعيّة للآخرين، وأقول لك: نعم، إن اللغة العربية الفصحى لازمة وضرورية لنا في حياتنا بصفة عامة لأن اللغة ركن من أركان بناء الأمة، ولا يمكن لأمة أن تكون محافظة على قتها ومتانة بنيانها، وتماسكها أمام ثقافات وأفكار الأمم الأخرى، إذا فرَّطتْ في لغتها الأم، لغة دستورها، ولغة علومها وأدبها وثقافتها، وأقول لك: نعم اللغة العربية الفصحى لغة غنيّة جداً غَنَاءً يجعلها قادرة على استيعاب جوانب الحياة جميعها، وأؤكد لك أن تعلّمها ميسور لمن شحذ همته، وقوّى عزيمته، وبإمكانك أن تتواصل معي فيما بعد لأدلك على أيسر الطرق الموصلة إلى ذلك. قال لي: أنا أقدّر فيك حماستك للغة القرآن، وما اتصلت بك إلا بعد أن استمتعت لأمسيتك الفصيحة في إحدى القنوات الشعبية فشعرت بتفاعل كبير مع الكلمات العربية الفصيحة، وشعرت بالفرق الكبير بينها وبين اللهجات الشعبية التي أصبحت جزءاً من حياتنا المعاصرة. قلت له: لعل المشاغل تمكنني من مشاركتي لك قريباً في جمال الصحراء الذي اهنئك على إحساسك به، والاستمتاع برونقه وبهائه، وهناك سأحدثك عن ثراء لغة القرآن وبهائها وكمالها، وعن الطريقة الميسرة لتعلمها وتذوقها فأنت تستحق ذلك. قال: أرجو أن يكون ذلك قريباً، وأعدك بأن نمتطي رحُولتين ونتحدث ونحن نتجول بهما في الصحراء، قلت له: وحينها سأعطيك قطرة من بحر اللغة من خلال بيان المعاني الكثيرة الحقيقية والمجازية لكلمة (رحولة) في لغتنا العربية الفصحى، وأقربها المعنى الذي استخدمته أنت: فالرَّحول، والرَّحولة من الإبل هي التي تصلح أن تُرْحَلْ، أي تُمْتَطَى، وهي الراحلة، تكون للذكر والأنثى، فاعلة بمعنى مفعولة، وأرحل الرجل البعير، روّضه حتى صار صالحاً للركوب، فهو راحلة، قال: أعانك الله عليَّ فسترى من حرصي على تحقيق هذا اللقاء ما قد يزعجك، قلت في نفسي: ما أجمله من إزعاج. إشارة قال المثقَّبُ العبديّ : إذا ما قمتُ أَرْحَلُها بليلٍ=تأوَّهُ آهةَ الرَّجُلِ الحزينِ