اسمحوا لي اليوم – أرجوكم – بهذا البوح، كل يوم أسفح عقلي بين أيديكم، فاستميحكم عذراً أن أسفح اليوم عاطفتي أمامكم، عقلي لم يعد يعمل، وقلبي يعتصره الألم والحرقة، أنا في أشد حالات العجز التي يمكن أن يعيشها إنسان، عمتي – زوجة والدي رحمه الله – أمي التي لم تلدني، بين الموت والحياة في مستشفى الحرس الوطني بجدة، في مركز الأميرة نورة بنت عبدالرحمن للأورام، منذ ثلاثة أشهر، انطفأت، حتى إنني رتبت مع ابنيها، أخويّ الأثيرين، حامد وعبدالرحيم مراسم العزاء بين الطائفوجدة، ثم انتعشت مرة أخرى، ولكن ليست عمتي \"فاطمة أحمد الغامدي\" لقد أفاقت طفلة في السابعة والسبعين أو حولها، أمس وضعت يدها على وجهي بعقلها الباطن، وهي تقول بصوت مبحوح \"دخيلك تجمّل في عمتك\"، وكيف أتجمل وماذا أفعل يا عمتي أو يفعل فلذات كبدك المرابطون عند رأسك وقدميك غير البكاء والدعاء، ولولا دموعي التي تنقذني لسبقتك كمداً يا ضيفة القبر. فتك بها المرض اللعين \"السرطان\"، ومنذ ثلاثة أشهر تقريباً اكتشفنا الحقيقة، وتكرم الرجل النبيل متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز فأعطاني أمراً مفتوحاً لعلاجها، ومنذ اللحظة الأولى بذل الدكتور \"الجراح الكبير\" أحمد الزهراني وفريقه، ومدير المستشفى خالد باكلكا ومدير العلاقات العامة عبدالرحمن مغربي، وكافة العاملين ما يستطيعون وما لا يستطيعون أحياناً. ولكن ماذا يفعلون أكثر من هذا الذي فعلوا؟ امرأة فوق الخامسة والسبعين فتك بها المرض حتى وجد الجراح الكبير أن القولون والرحم والكلية والحالب، لا بد من استئصالها، أما الرئة فتحتاج للكيماوي، ومتى نصل إلى الكيماوي؟ تعطلت الكلية الأخرى، واستفحل المايكروب بالدم، وتعطلت لغة العلاج، والكلام، ولم يبق سوى الدعاء، وانتظار المعجزة. هذه المرأة حبيبة أبي، تزوجها رجلاً وهي طفلة، وكنت في عامي الأول عندما فقدت أمي ولا أعرفها، وصبرت وصابرت وأنجبت رجلين ناجحين الآن وامرأة وأماً جامعية، هم إخواني \"حامد وعبدالرحيم، ومنى\" ومات أبي رحمه الله أعظم ميتة في منتصف الستينات من عمره، وكانت امرأة في ريعان شبابها وأنوثتها، فضحت بالشباب والأنوثة من أجل أولادها، أولاً ومن أجلي ثانياً فهي التي سمت أولادي الكبار \"ريم، وعبدالله، وماجد، ونجاة\" وهي التي ربتهم وهم الذين ابتكروا لها لقباً خاصاً هو \"أم جَدّة\" و\"أم جدة\" هذه أصبحت تحمل اللقب مع أكثر من خمسة وعشرين حفيداً هم اليوم \"الكية\" التي لا يستطيع الطب كله، ولا دموع حبيبها الأكبر \"قينان\" أن يطفئ لوعتها لكي تشاهد واحداً أو واحدة منهم، وهي لم تعد تدري إن كانت في جدة أو في \"الحلّة\" والحلة هذه هي موطن بيتنا في قرية الطويلة ببلاد غامد بمنطقة الباحة، التي أصبحت \"أيقونة\" قاتلة، تعلقها عمتي الحبيبة كلما زرتها صباحاً أو مساءً في عنقي وهي من اللاشعور تضع يدها على وجهي وتقول \"أرجوك جيب – صالحة، زوجتي، وخذوني إلى الحلة\" وزوجتي الحبيبة – وحبيبتها – واقفة إلى جواري عند سريرها، لكنها لم تعد تتذكر إلا من تسمع صوته، أو من يملأ حدقات عينيها بوجوده العدم. يا الله... كم أنا عاجز إلا من رحمتك وعطفك ودعمك، \"كيف أتجمل في حبيبة أبي\" لا أريد إنقاذها من الموت، أريدها أن تكون في حال ترحمني من العذاب، من هذا العجز القاهر وأنا أنظر إليها وأستمع إليها، اللهم إنك، أرحم بعبادك من أنفسهم، فأنقذهم مما هم فيه من حيرة وعذاب. نحن لا نختار يا رب العزة والجلال، لكن أحب الناس إليّ، أبي مات ميتة رائعة، هل في الموت ما هو رائع؟ نعم، كان مريضاً بالقلب، لكنه لم يلزم السرير، وذات يوم خرج يمشي على قدميه إلى مستشفى الملك فيصل بالطائف يوم 27/1/1403ه، وهناك كان الأطباء يحاولون تدارك هبوط القلب، ولكنه – رحمه الله – كان يعرف الحقيقة، ولا أدري لعل المقبل على الموت يرى حقائق لا نراها، قال لي، دعك منهم، أنا سأموت، أريد أن أوصيك: \"عمتك،...، لا أقصد إخوانك، منى وعبدالرحيم وحامد، وأولادك، وأخواتك... وفجأة انطفأ، ولم أدرك كارثية هذه الانطفاءة المفاجئة إلا بعد أسابيع عندما عرفت أنني أب لأربعة أطفال كان هو أباهم، وأخ أكبر لثلاثة إخوة أصبحت أنا أباهم، وكانت \"فاطمة التي ترجوني وهي لا تدري الآن أن أتجمل فيها \"خير سند ومعين. كان \"عبدالله\" أبي حنوناً طيباً رجلاً وكنت لا أدري غيره رجلاً ولكن الموت لا يعطي أحداً فرصة.. تقلبت بنا الدنيا والمدن والمسافات، و\"أم جدة\" مقيمة على العهد والحب، توزع مرحها وتوجسها و\"غلبتها\" وخوفها ونقدها، وثقافتها وخفة ظلها على الجميع حتى طاحت على السرير منذ أكثر من مئة يوم، وأخيراً تتوسلني بصفتي حبيبها ابن عاشقها \"أبي\" الذي لم تعشقه ومعها كل الحق قائلة: \"أرجوك تتجملّ في عمتك\" فماذا عساي أن أفعل وقد أعطى الأطباء ما في وسعهم وعلمهم وأكثر، وماذا أفعل يا عمتي الأثيرة، سوى أن أبكي فقط، فهل هناك عجز أكثر من هذا؟.. إنا لله وإنا إليه راجعون. ادعوا لها، فالله قدير على ما يشاء، إنني أدعو لها بالشفاء.