أعتذر في البدء لقرائي الكرام لأنني لن أكتب اليوم الإيضاح الأخير الذي وعدتهم به في نهاية مقالي أمس، لكني سأكتب بما له علاقة مهمة بما كتبت خلال الأيام الثلاثة الماضية، حيث تلقيت أمس وأول من أمس اتصالين هاتفيين مهمين من صديقين عزيزين عربيين من خارج المملكة، يتابعان مقالاتي على موقع \"الوطن\" الإلكتروني، أحدهما قومي حتى النخاع، والآخر إسلاموي أو أصولي حتى نخاع العظم، وعلاقتي بالاثنين وطيدة وحبل الود بيني وبينهما ممدود، وأختلف أنا وهما بطريقة حضارية جميلة، لكنهما غضبا مني هذه المرة، وعاتباني بمرارة، وحرارة وبدا لي أنهما فوجئا بأن الاختلاف الذي بيني وبينهما حظي باهتمام واسع بين أصدقاء ومعارف الطرفين في بلدهما، وأصبح موضع نقاش وجدل، وأن موقفي أو رأيي حظي بتأييد أغلبية هؤلاء الأصدقاء، فأرادا من الاتصال إبلاغي أن موقفهما لم ولن يتغير، وأنهما يختلفان معي اختلافاً كاملاً وجذرياً، وأنا أتفهم موقفهما وأقدره وأحترمه، وهما يعرفان رأيي فيهما كأصدقاء ونتفق ونختلف سراً وعلناً، ولا يفسد ذلك من الود بيننا شيئاً، وهذا لعمري دليل تحضر ووعي، ولو أن كل الاختلافات في الرأي بين البشر سارت على هذا النحو الجميل لكان العالم العربي والإسلامي بألف خير، وأنا لا أحب أن أذكر اسميهما هنا احتراماً لرغبتهما وإلا فهما لامعان ومحترمان وأنا أقدرهما على الرغم من حرارة ومرارة العتاب الذي بلغ في ذروته درجة تجهيلي، لكنني - علم الله - قدرت وتفهمت ومازلت كذلك، لأنني أعرف مدى الحساسية القصوى عند إخواننا من \"الشعاراتيين\" العرب أو على الأقل عند كثير ممن أعرفهم وتربطني ببعضهم صداقة لا يفسدها الاختلاف في الرأي أبداً من قبلي على الأقل والله أعلم بقلوب عباده، صديقي الأول \"القومي\" اكتفى بعد التحية والسلام أن قال لي: مع الأسف الشديد أنك لا تعرف عبدالناصر ومشروعه العظيم، وبالتالي فأنت معذور على جهلك بالقومية العربية وتاريخها المجيد، قلت: يا صديقي أنت محق فيما قلت، ولا تغضب فأنا من الجيل الذي فتح عينيه وعقله على القراءة والاطلاع في فترة العزاء حين كنتم تتلقون مواساة الجماهير العربية في وفاة الزعيم وجثة المشروع، ولذلك فنحن نحمد الله كثيراً أننا لم نعرف تلك الحقبة واقعاً نعيش فيه وإنما عرفناها من كتبكم، ووجوهكم، وحساسيتكم المتناهية التي لا تسمح مطلقاً إلا بالتمجيد والبكاء على الأطلال، وأنا أحمد الله أننا كجيل وجدنا الفرصة لنقول رأينا في ذلك \"المجد الغابر\" الذي مازلتم تتغنون به بينما الواقع حولكم يقدم الدليل تلو الدليل على زيفه وفشله، ونحن يا صديقي وحتى لا يزيد عتبك وغضبك لا نحمل الزعيم مسؤولية أكثر من تلك التي وردت على ألسنتكم وأقلامكم إن كنتم صادقين، ونحن لم نعهد على المنصفين منكم كذباً خاصة أولئك الذين كتبوا عن المواقف والأحداث وليس الأشخاص. وهنا قال صديقي وعتبه يتصاعد: لم أتصل لتعطيني دروساً فيما أعرف، وأنت لا تعرفه مع السلامة. أما صديقي \"الإسلاموي\" أو الأصولي، فقد قال لي: أنت لم توضح قصدك بسقوط \"الشعار\" قلت: بلى أوضحت وقلت بسقوط \"شعارين\" وليس واحداً، شعار القومية البائدة، وشعار الإسلاموية أو الأصولية، أو سمها ما شئت، المتهاوي. قال كيف؟ قلت: لو تأملت في داعمي \"حزب الله وفريقه\" مادياً ومعنوياً من خارج لبنان باعتراف الحزب نفسه واعتراف الداعمين أنفسهم لعرفت كيف كان سقوط الشعارين مدويا ومتجاوزاً حدود نتيجة الانتخابات اللبنانية التي جاءت لصالح \"العقل\" ولإعلان وفاة أو سقوط الشعارين علناً. قال: من هم الداعمون، وما هو شعار تيار العقل الذي تزعمه؟ قلت: لا أظنك تجهل لكنني سأوضح لك، فأما الداعمون فهم معروفون ومعلنون، سوريا وإيران، والمتعاطفون والمصفقون أمثالك من جماعة الإخوان المسلمين وامتداداتهم في كل دول المنطقة من الخليج إلى دول الشرق الأوسط وأفريقيا، وإلى مغارات تورا بورا، وأما تيار \"العقل\" فهو لا يحتاج إلى شعار، ولكن لا بأس ولقصد التحديد والتشخيص والتصنيف التي لا تقبلونها بدون شعار رنان أقول لك إنه \"منهج الاعتدال العربي\" قال ضاحكاً ومخففاً حدة العتاب تقصد \"السعودي يا سيد قينان\"؟ قالها وهو يظن أنه وجه لي الضربة القاضية، قلت بدون تردد: الآن أصبت كبد الحقيقة يا صديقي، لكن اسمح لي أن أضيف وطنك – لا جماعتك – مصر، قال ساخراً: أضف من تشاء من عربك لكن لا بد أن تعرف أن هناك صامدين، قلت: عدنا للشعارات؟ قال: وما المشكلة؟ قلت: لا مشكلة لكن ألا تلاحظ أن هذا الذي يدور الآن بينك وبيني جدل وليس حواراً؟، فضحك وودعنا بعضنا ضاحكين، وإلى اللقاء غداً.