القارئ المتمرس للأدب العربي يستطيع – قطعاً – التفريق بين الشعر وبين النظم، بل إن القارئ أو المستمع العادي يجد داخل نفسه \"لذعة إحساس غريب ومدهش\" حين يسمع أو يقرأ \"شعراً\"، وهو لن يجدها حين يقرأ أو يسمع \"نظماً\". وأزعم – شخصياً – أنني لست قادراً على التمييز بين \"حياة الشعر\" وبين \"جثة النظم\" فقط، بل إنني \"نظام ماهر\" ومثلي كثير من زملائي المعاصرين والسابقين واللاحقين الذين تخصصوا مثلي في اللغة العربية وآدابها، ولدينا في المملكة كثيرون توهموا أن ما ينظمونه شعراً، واستمروا في مهارة \"النظم\" حتى أصبحت منظومات بعضهم تفرد لها صفحات كاملة مزركشة في بعض الصحف، وهم أول من يعرف أن ما يكتبونه هو \"النظم\" وليس \"الشعر\"، لكنهم استمرؤوا الأمر لوجود من يصفق لهم مجاملة أو سخرية أو عدم اكتراث بما يجنونه على أنفسهم، وأقول على أنفسهم لأن \"الشعر\" كان وما زال وسيظل في مأمن من تطفلهم على فردوسه، فهو محصن ضدهم مثلما كان محصناً ضد قدوتهم \"أبوالعتاهية\" الذي قال \"لو أردت أن أجعل كلامي كله شعراً لفعلت\" ولأنه نظام دعي ظل يهذي خارج دوحة الشعر حتى يومنا هذا ومعه كثيرون في عصره وقبله، وتبعه قبل نظامينا في العصر الحديث \"صفي الدين الحلي\" وغيره من أقطاب عصر الانحطاط. وإذا كنت قارئاً متذوقاً للشعر فإنك ستجد مئات المنظومات في غرض الوصف على مر العصور، لكن الشعر في هذا الغرض قليل، ولو توقفت عند العصر العباسي – مثلاً – فإنك ستجد قليلاً من شعر الوصف، كثيراً من غناء النظم وستلمس بشفاف قلبك أن قصيدة المتنبي في وصف \"شعب بوان\" ليس لها إلا القليل من الصديقات اللواتي يفعلن في روحك فعلها وهي تتبرج بمفاتنها أمام نبض إحساسك: \"مغاني الشعب طيب في المغاني بمنزلة الربيع من الزمان\" واقلب الصفحة الآن فلن أدعوك إلى \"حمدونة الأندلس\"، وإنما تعال إلى الفاتنة المغناج \"جدة\" كمثال من العصر الحديث. وستجد حولها آلاف الصفحات التي سودت \"نظماً\" لكنك لن تجد إلا \"حمزة شحاتة\" واحداً، نسج من غمزة رمش \"عروس البحر الأحمر\" خالدة الدهر الوصفية: \"النهى بين شاطئيك غريق والهوى فيك حالم ما يفيق\" فإذا انتقلت إلى الشعر العامي فإن الحال لن تختلف عليك في التفريق بين \"جثث النظم\" وبين \"حوريات الشعر\"، إنك – تاريخياً ستجد منظومات تترى في وصف الحبيبات لكنك – حتماً – ستشعر بهزة النشوة وأنت تقرأ حبيبة \"محسن الهزاني\": \"قالوا كما مبسم هيا قلت لا، لا بين البروق وبين مبسم هيا فرق\" فإذا اقتربت إلى زمننا المعاصر \"زمن الصحف والمجلات والقنوات\" المشرعة لهذا الشعر فقل لنفسك كم ستجد بين غثاء النظم الطافح مثل غجرية فهد عافت: \"ريمٍ وتضحك يرق الما ويصفى لي زماني والمكان يطيب والرمان يتكدس هنيّا\" أو مثل تجليات دايم السيف في صوفيات الغرام: \"أحب عسف المهرة اللي تغلىّ واحبّ أروض كل طرف يموق\" والقائمة تطول. و\"النظامون\" كلهم مثل \"أبو العتاهية\"، يحدد أحدهم الموضوع أو يطلب منه ثم يصف الكلمات مستنداً إلى مهارته في الوزن والقافية وحصيلته اللغوية، أما الشعراء فإنهم لا يحددون، ولا يملى عليهم موضوع، إنهم كلهم يقعون من حيث لا يدرون تحت مباغتة أسراب \"قطا الشعر\" التي تملأ حواسهم ومشاعرهم فلا يجدون بداً من الانعتاق منها سوى تخليقها مرة أخرى في أسراب من \"قماري الكلام\" التي لا يجد قارئها مناصاً من مشاركتهم لذة الانعتاق أو عذاب اللذة التي لا يجد الشعراء ولا قراؤهم تفسيراً مقنعاً أو وصفاً ناجزاً لها سوى \"الله... الله... إنه الشعر\": \"في الحنايا خيل ترمح وخيال يحدي وفي المرايا ألف بحر يتلعثم بازرقه\" والآن. إذا سمحت. فقل – إن كنت تعرف – من الذي حدد للخنساء أن تنشد مرثيتها الأخاذة في \"صخر\"، ولماذا \"حضرتها\" لم تنشد مثلها بعد أن فقدت أبناءها الأربعة دفعة واحدة؟، ومن الذي طلب من البحتري أن يصف \"إيوان كسرى\"؟، ومن الذي أغرى أو أمر \"شوقي\" أن يعارضه ويسفح دم مشاعرنا وهو يتدفق: \"أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس؟\" وقل – إن كنت تستطيع – متى وكيف كان \"النابغة الذبياني\" يبعث بعوثه حاملة مواضيع القصائد وشروطها للشعراء والشاعرات في فيافي ومضارب العربان قبل أن يقفوا أمام قبته المنصوبة في \"سوق عكاظ\" لينشدوها بين يديه، بل، قل – بالله عليك – كيف دارت رأس النابغة هذا وهو يسمع: \"قذى بعينيك أم بالعين عوار أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار\" وهل أقسم للخنساء \"لولا أن أبا بصير أنشدني قبلك لقلتُ إنك أشعر من بالسوق\" لأنها استوفت الشروط المسبقة والتزمت الموضوع المحدد أم لأنها شاعرة باغتته واستفزته بعد أن أسقته خمر الشعر دون سابق توقع أو انتظار موضوع؟ إذا استطعت أن تجيب، فإنني آمل منك تلبية هذا الطلب، واعتبره \"خدمة وطنية\" لن أنساها لك. أرجوك أن تمتطي ناقتك \"العصافيرية موديل 2009\" وتنطلق نحو \"سوق عكاظ الجديد\"، ولتكن في \"مزودة سفرك\" قصيدة الشاعر الفذ ناصر الفراعنة \"ناقتي يا ناقتي\"، وفور وصولك أبلغ إجابتك إلى \"أستاذ اللغة العربية في الجامعة ورئيس نادي الطائف الأدبي\" الدكتور جريدي المنصوري، ولكي تكون رسالتك أوقع عنده، قل له: صف ناقتي لو سمحت، وستجد أنه قادر – قطعاً – على نظم مئة بيت مما يرضيك ويسعدك في ناقتك الماثلة أمامه، بل إنك ستشك وتتساءل إن كانت هذه ناقتك التي تعرفها أم لا من فرط ما سيضفيه عليها الدكتور بنظمه من سمات وصفات، فإذا انتهى أخرج قصيدة \"الفراعنة\" واسأله ما الفرق بين \"ناقة النظم\" و\"ناقة الشعر\"، وسيخبرك – حتماً – بصفته المتخصص المتذوق الناقد، ثم اسأله: ما الفرق – يا دكتور – بين ناقتي العصافيرية وبين التضامن العربي والاستنفار التنموي السعودي، وكم عدد \"النظامين\" الذين تتوقعونهم لوصف \"التضامن، والاستنفار\" تحت المظلة المخاتلة التي تسمونها \"مسابقة الشعر\"؟، وأرجوك، أرجوك أبلغني بالإجابة حتى أعممها بطريقتي على لجان \"سوق عكاظ الجديد\"، فهم بدون حتماً ولا قطعاً بل ربما – وجدوا في إجابته مفاجأة تنقذ السوق من تحنيط الجثث.