خلال اليومين الاول والثاني من ابريل 2004نظم قسم الدراسات العربية بالسوربون الجديدة باريس الثالثة ندوة عن الادب العربي الحديث هدفها البحث في قضايا التصنيف واشكاليات التحول، وبخاصة في العقود الثلاثة الاخيرة. اتخذت الندوة شكل طاولة مستديرة يشارك فيها باحثون متخصصون فحسب بأمل الوصول الى نتائج محددة تبلور القضايا النظرية موضوع البحث. انه لما يلفت الانتباه ويثير التساؤل حقاً اننا لا نجد في اللغة الفرنسية اليوم مراجع اساسية عن الادب العربي الحديث توازي في شموليتها وعمقها ما نجده في اللغة الانجليزية (تاريخ كامبرج للادب العربي، اصدارات بروتا باشراف سلمى الخضراء الجيوسي مثلاً). هذا الوعي بالنقص والعمل على تداركه هو فيما يبدو، الحافز الذي دفع بطرس حلاق وزملائه في القسم اعلاه الى تنظيم هذه الندوة. وتأطير المشاركات في المستوى التنظيري كان من المفترض ان يعين على بلورة اطروحات عمومية جديدة عن تحولات الخطاب وابراز اشكاليات التحول لأجناسه وموضوعاته وشروط تداوله. لكن وجاهة الهدف واهمية الجهود التي بذلت لتحقيقه اخترقتها مفارقات حدت من الطموحات وستفضي الى خلل في المنجز ان لم يتم تداركها تالياً بصيغة ما. فمن جهة اولى تدل نظرة اولية على اسماء المشاركين ان هناك خللاً فادحاً في عملية التمثيل نسبة الى فضاء عربي متسع لا تخلو جهاته من باحثين اكفاء في هذا المجال. فمن لبنان وسوريا شارك بطرس حلاق (مشرفاً على الندوة)، عباس بيضون، اسعد خير الله، فاروق مردم بيه، هدى ايوب (تعمل في الجامعة ذاتها) صبحي حديدي، صبحي البستاني، فيصل دراج، عبدالرزاق عيد (الياس فوري دعي ولم يحضر). ومن مصر: سيزا قاسم وهدى وصفي، وصبري حافظ الذي جاء من لندن حيث يقيم ويعمل. ومن تونس: توفيق بكار ومحمود طرشونه ومنصور لعجيمي. لا أحد من الجزائر والمغرب، ومن العراق لم يشارك سوى كاظم جهاد الذي يقيم ويعمل في باريس، ومن الجزيرة العربية كلها لم يدع سوى كاتب هذه المادة! هكذا يتضح ان مصدر الخلل في التمثيل يعود في المقام الاول الى اتخاذ الذاكرة القريبة وعلاقات المعرفة الشخصية مرجعية وليس التخصصات والانجازات!. ومما زاد من معاني الخلل هنا ان بعض الاسماء التي غابت او غيبت حتى من بلاد الشام ومصر لم يكن من السهل تعويضها بالكم العددي. مثلاً على ذلك ابراهيم السعافين الذي يعد أهم من اشتغل على الرواية في بلاد الشام تاريخاً وتحليلاً، وصلاح فضل الذي تعد اعماله عن اساليب السردية والشعرية العربية الحديثة في صميم الموضوع العام لندوة كهذه. اما غياب اسماء نقاد \"فرانكفونيين\" بارزين مثل حمادي حمود ومحمد مفتاح وسعيد يقطين فهو امر غريب مفهوم او مبرر في ندوة كهذه، وذلك تحديداً لأنهم ممن اشتغل مطولاً ومعمقاً على قضايا نظرية لم ينجز فيها جل المشاركين شيئاً يذكر!. كذلك اسماء الباحثين المدعوين من اقطار اوروبية مختلفة وليس لأي منها صدى اسماء الجيل السابق من المستعربين الموسوعيين كجاك بيرك واندريه ميكيل وبدرومونتابيت تمثيلاً لا حصراً. فيما يتعلق بأوراق العمل التي قدمها المشاركون برز خلل آخر يتحمل المدعو نفسه مسؤولية في المقام الاول. فأغلبيتهم تركت قضايا التحقيب والتصنيف لتستعيد بعض الدراسات الموضوعاتية والاسلوبية المنشورة سلفاً غير واعية بأن موضوعات جزئية كهذه غير مبررة وغير مجدية في مقام كهذا. فالحديث عن التيمات المركزية عند نجيب محفوظ (فيصل دراج) او عن اسلوب الكتابة القصصية لجيل السبعينيات في مصر (ص. حافظ، وسيزا قاسم) او عن البعد السوسيولوجي للخطاب الروائي في سوريا (ع. عيد) يتجه الى قضايا مألوفة كتب عنها مئات الكتب وآلاف الدراسات في العربية وفي لغات اخرى. لحسن الحظ كانت هناك بعض المقاربات التي تميزت بالشمولية والبعد النظري، ورغم قلتها إلا انها اغنت الندوة نسبياً وقربتها من اهدافها التي المحنا اليها في بدء هذا المقال. في مجال الخطاب الشعري قدم عباس بيضون مراجعة نقدية صارمة لخطاب مجلة \"شعر\" ليكشف عن تناقضات الموقف والتباس الرؤية لدى ممثلي هذا الخطاب في شقيه التنظيري والابداعي، ولعل ابرز مظاهر الخلل تجلى، حسب الشاعر الناقد نفسه، في الفصل التعسفي بين الشعر من جهة والمجتمع والثقافة والتاريخ من جهة اخرى. من جهته حاول صبحي حديدي تعميق النظر في ظاهرة تعدد مراكز انتاج الخطاب الشعري في العقود الثلاثة الاخيرة وهي ظاهرة يفترض ان تؤخذ في الحسبان، وقد تختبر في مجالات الخطاب الروائي والنقدي، فلا تعود تلك المركزيات القطرية المقية تتحكم في الرؤى والمقاربات والاطروحات. في مجال المسرح قدمت هدى وصفي ورقة عمل متميزة عن ابرز التحولات والمنجزات التي تحققت في هذا المجال بعد 1970م، ورغم تركيزها على التجارب المسرحية في مصر، إلا ان تواصلها المباشر مع تجارب عربية اخرى تعرض بانتظام في مصر اغنى بحثها بالكثير من الابعاد التي تصلح منطلقاً لاطروحات نظرية جادة ومعمقة. ورقة الباحثة مونيكا روكو عن \"المسرح المغاربي\" لم تكن اقل شمولية عمقاً خاصة وانها تتكامل مع المقاربة الاولى بقدر ما تكشف المزيد من الابعاد المعرفية والجمالية لتجارب مسرحية متميزة لكل من الطيب صديقي (المغرب) وعز الدين المدني وتوفيق جبالي (تونس) وكاتب ياسين وع. جغلول (الجزائر) وفي كل الاحوال كانت القضية الاشكالية التي اثرناها والح عليها بعض الباحثين الاوروبيين تتعلق بمدى وجاهة الحديث عن \"مسرح عربي\" وجل التجارب القديمة والحديثة غالباً ما تشكل نمطاً من انماط المحاكاة الاستعارية لما يروج في اوروبا، وذلك لأن هذا الفن الحواري الاجتماعي لم يكتسب كامل مشروعية في السباق الثقافي العربي بعد. أهم مشاركة متعلقة تماماً بموضوع الندوة هي التي قدمها الباحث الفرنسي ريتشار جاكومو عن الحقل الادبي في مصر منذ 1960وافاد فيها من ابحاث الاجتماعي الشهير بيير بورديو عن المجال الرمزي في المجتمع. فهذا المجال هو الذي تشكله الثقافة بمفهومها الواسع ومكوناتها المتنوعة، واستقراء علاقاته بين المجتمع المادية من جهة وبمؤسسات السلطة الرسمية من جهة اخرى عادة ما يفضي الى الكشف عن ابعاد الاشكاليات التي يعبر عنها الخطاب الادبي بقدر ما يعاني وطأتها ويحاول تجاوزها. هكذا فإن حديث الباحث عن هلامية الحدود بين الحقل الادبي والحقول الاخرى، وتبعية الفاعلين الرمزيين في هذا الحقل لغيرهم من الفاعلين في المجالات الاخرى، والعودة المتكررة للازمات التي كان من المتصور انها تخص مراحل وفترات سابقة.. كل هذه القضايا تقبل التعميم على مجمل الفضاءات العربية مما يدل على جدية البحث وجدوى منهجية البحث. من جهته قدم التونسي منصور لعجيمي ورقة مهمة تتبع فيها ابرز اتجاهات الخطاب النقدي العربي الذي ظل يدور في فلك التوترات وهو يحاول متابعة تطورات النظريات النقدية الحديثة في الغرب والحوار مع المنجزات الابداعية التي ينتجها الاديب العربي في سياقات اجتماعية ثقافية تاريخية مختلفة. بعد هذا ظلت الندوة اكثر تواضعاً، او قصوراً، مما كان يراد لها وهذا ما كشفته النقاشات التي كثيراً ما بدت اكثر اهمية من اوراق العمل، ولعل تعبير منظمي الندوة عن هذه القضية جاء صريحاً وهم يعلنون في ختامها ان الامور زادت تعقيداً والتباساً فيما كانوا ينتظرون تحديد القضايا وجلاء الرؤية والانطلاق في الانجاز!. من الواضح لكل ذي بصر وبصيرة ان ندوة كهذه لابد ان تجابه وطأة اشكاليتين لا يمكن تحقيق أي منجز نظري جدي عن الخطاب الادبي العربي في عمومه من دون الوعي بهما والعمل على تجاوزهما اولاً. الاشكالية الاولى تتمثل في عدم وجود مصادر ومراجع موسوعية تقدم معلومات دقيقة عن الادباء وعينات تمثيلية من انجازاتهم على مدى زمني طويل كالمؤسسات الببليوغرافية والمختارات الشاملة لمختلف الاجناس او للثيمات المركزية في هذا الجنس الادبي او ذاك. الاشكالية الثانية تتعلق بغياب الفكر الفلسفي في ثقافتنا العربية الراهنة، وهو الفكر الذي عادة ما يغذي النظريات الادبية والاجتماعية والتاريخية، ولنتذكر مدى تأثير هيجل وكانط. ولوكاش في نظريات الادب والنقد الغربية بشكل عام. لقد حاول عبدالله العروي تقديم اطروحات متميزة عن الرواية السوسيولوجية وعن القصة القصيرة نتاج الوعي الفردي القلق وترجمانه، لكنها ظلت محاولات اولية لم يطورها غيره، بل نادراً ما يفيد منها النقاد. اما حينما يغامر بعضهم الى الخوض في التنظير من دون زاد فلسفي يذكر فإن هذا مما يعمق المفارقات ويعمي الرؤى والتصورات لأن الاتكاء على مقولات من هنا وهناك لا يبني اطروحات متماسكة قابلة للاختبار المعرفي او منتجة للمزيد من المعرفة إلا في حدود الاجتهادات الفردية القلقة بطبيعتها. هاتان الاشكاليتان كانتا في خلفية وعينا ونحن نعد ورقة عمل عن الخطاب الادبي في شبه الجزيرة العربية ستنشر هنا على حلقتين ونأمل ان تثير بعض الاسئلة التي عادة ما نهملها بقدر ما يهمل آخرون مجمل الخطاب الثقافي في هذا الفضاء وكأنه صحراء العلامات والمعاني بامتياز!.