جازان والشعر عبدالرحمن بن صالح العشماوي* هنالك حيث ينتثر فلُّ القوافي، وينتشر شذاها في كل مكان، وحيث يطرب البحر شواطئه بأجمل ألحانِ المدِّ والجزر، وحيث تتعانق الشيح والكادي والبعيثران مع أجمل وأرقِّ وأعمق المشاعر المتدفقة التي يتميز بها أهل جازان، هنالك يتحول الأدبُ إلى رياض غناءَ معشوشبة، وإلى أنهار منسابةٍ بين أشجار القريض، وأزهار الحبِّ والوفاء. كنت يوم الخميس 14-3-1430ه على موعد مع جماهير الشعر في محافظة العارض، في مركز القصبة، في قرية (الحُنْبُكَة) في مُصلَّى العيد الذي احتضن نشاط المخيم الدعوي على مدى أسبوع كامل حافلٍ بالعطاء الثقافي المتميز محاضراتٍ وندوات، ومسابقات، وأمسيات أدبية يعرف أهل جازان كيف يتعاملون معها. كانت أمسيتي الشعرية بعد العشاء، بعد أن سبقني في محاضرةٍ قيمة بين المغرب والعشاء الدكتور سعيد بن غليفص القحطاني بعنوان (أسرار التوفيق) وقد لمستُ لها أثراً قوياً في نفوس من التقيت بهم من أهل جازان الذين استمعوا إليها. لم يمكن الموعد مع الجماهير التي امتلأت بها ساحة مصلى العيد فقط، وإنما كان مع القمر الذي قدَّم نفسه لنا في تلك الليلة تقديماً بارزاً مضيئاً رائعاً مكتملاً، ومع سلسلةِ جبال العوالي، وقمة جبل (سلا) الشامخة التي تفاعلت مع ضوء القمر المكتمل، فحوَّلت ذلك الليل إلى لوحةٍ مسائية بديعة أشعلت وهج القوافي، وأبهجت النفوس. في جازان بلد (الألف شاعر) وربما كان هذا العدد متواضعاً، تتميز اللقاءات الأدبية والثقافية بميزة لا تكاد تتوافر لغير جازان والأحساء - حسب تجربتي - ألا وهي حضور عشاق الأدب من كل طبقات المجتمع، فتجد كبار السن الذين يحملون من العلم والمعرفة والثقافة ما يدهشك إذا لم تكن عارفاً بعلاقتهم الوثيقة مع العلم منذ انتشاره هناك على يد الشيخ (عبدالله القرعاوي) رحمه الله الذي بدأ بنشر العلم حينما نزل مدينة صامطة في غرة ربيع الأول عام 1358ه، فوجد بيئة علمية خصبة أثمر فيها العلم إثماراً عجيباً، وتجد صغار السن من طلاب المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وتجد في مقدمة الجمهور العلماء، والقضاة، والدعاة، والموظفين، وشيوخ القبائل، ورؤساء المراكز والدوائر الحكومية العسكرية والمدنية. هنا تتحول المحاضرات والأمسيات والندوات إلى مهرجانات ثقافيةٍ حافلة بالعطاء والتألق، وهذا ما يجعل المحاضر أو الشاعر يتفاعلان مع الناس تفاعُلَ من يدرك الأثر العميق لما يقول من الكلمات في نفوس المتلقين. ليلة قمرية حافلة بالأدب والشعر رسمت بها جازان في ذاكرتي أجمل صورةٍ للحبِّ والوفاء، والتفاعل الراقي. شيء واحد عكَّر صفاء هذه الليلة الرائعة، هو ما رواه لي بعض أدباء وشعراء جازان من أخبار الملتقى الشعري الذي أقيم في نادي جازان الأدبي، حيث رأوا الشعر يذبح على مسامع الحاضرين بسكين (النثرية) في الشكل، والتجاوزات العقدية في المضمون من بعض الشعراء والشواعر الذين شاركوا في ذلك الملتقى، وقد أشار إلى ذلك د. عبدالله بن سليم الرشيد في مقالٍ نشر في هذه الجريدة قبل أيام وهو شاهد حضر الملتقى وشارك فيه بورقة، وفوجئ بالمستوى المتدني الذي هبط إليه الشعر في نادٍ أدبي يقع في بلد الأدب والشعر والعلم والثقافة (جازان)، وهذا ما سأتناوله في مقال قادم بإذن الله. تحية لبلاد الفُلِّ والشيح والكادي والبعيثران، والعلم والأدب والشعر والذوق الراقي، وشكراً لكل من أسهم ويسهم في رفع مستوى الذوق في بلادنا. وشكراً خاصاً للقمر، والنجوم وسلسلة جبال العوالي، وقمة جبل (سلا). إشارة: أحبّتَنا في أرض جازان، إننا=قلوبٌ إليكم بالدعاءِ تُبَادِرُ ____________________ * أديب وشاعر وكاتب يومي بصحيفة \"الجزيرة\" السعودية