مَنْ يرحل في بساتين أخبار الرجال الذين انتصروا على أهواء نفوسهم، وارتفعوا إلى مقامات الأتقياء الذين يحاسبون أنفسهم محاسبة يومية حتى يرتقوا إلى الطاعة المطلقة لله عز وجل، والاتباع لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه سيجد في هذه الرحلة من المتعة والراحة ما يجعلها من أجمل الرحلات وأحسنها. بساتين نضرة، وحدائق ذات بهجة، يغرس فيها التائبون العابدون المستغفرون أجمل أشجار الطاعة والإيمان واليقين. أولئك القوم الذين حققوا معنى قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وعرفوا معنى قوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، وأيقنوا بأن الله لا يخفى عليه خافية، وأنه - سبحانه وتعالى - يعلم السرَّ وأخفى. وإذا كانت أخبار أولئك القوم قد استفاضت فيما بين أيدينا من كتب السِّيَر وأخبار الرجال من السلف الصالح، فإن أمثالهم في زماننا هذا موجودون، ولكنَّ بريق الحياة المعاصرة، وضجيج آلات المدنية، وصخب الإعلام الهادر، قد أبعدهم عن ساحة الظهور، وأخفاهم عن أعين الناس. لقد رأيت منهم في طفولتي وصباي جدِّي لأمي (محمد علي سحَّاب الغامدي) - رحمه الله - فقد كان شديد المحاسبة لنفسه في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، محباً للناس، مخلصاً في نصحهم وتوجيههم، حريصاً على العفو عنهم والبحث عن الأعذار التي تخفِّف من وقع إساءة من يُسيء منهم، وكان مواظباً على التهجُّد وقيام الليل، مع نشاطه في عمله في مزرعته الصغيرة (السِّعب) التي كانت تسعد بصدى ذكره وتسبيحه فتمنح - بإذن الله - من بركات ثمارها وجودة إنتاجها ما يلفت النظر. ولقد شعرت أن تلك المزرعة قد حزنت لفراقه حينما ودَّع هذه الدنيا، فتراجع عطاؤها، وتناقصت ثمارها حتى أصبحت الآن أثراً بعد عين. نماذج أولئك القوم موجودة في زماننا، ولكنها عند السلف أكثر، وفي مجالات الخير أشهر وأظهر. هذا عديُّ بن حاتم - رضي الله عنه - يقول: ما دخل وقت صلاة إلا وأنا أشتاق إليها. ومما نقله الإمام السخاوي عن ابن حجر العسقلاني - رحمهما الله - أنه توجَّه مرَّة للمدرسة المحمودية، فلم يجد المفتاح، فأمر بإحضار نجَّار لفتح الباب، وتوجه للقبلة يصلِّي حتى تمكن النجار من فتح باب المدرسة، فلم تطب نفسه بإضاعة وقت الانتظار وهو محسوب من عمره. ويروي الداراني عن الحسن البصري - رحمهما الله - أنه قام ليلة بسورة (عمَّ يتساءلون) فغشي عليه، ولم يستطع أن يختمها إلى الفجر. ويقول الخلال مصوراً هذا الإحساس العميق: إذا أكلت الحلال أطعت الله عز وجل، شئت أم أبيت، وإذا أكلت الحرام عصيت الله تعالى، شئت أم أبيت. ويصف لنا ابن الجوزي - رحمه الله - في كتابه النفيس صيد الخاطر خبراً عن شيخ لم يذكر اسمه، أنه كان يدور في المجال يقول للناس: (من سرَّه أن تدوم له العافية فليتق الله عزَّ وجَلَّ). ومن أجمل أخبار أولئك القوم ما نقله عنهم الشيخ ابن عربي صاحب كتاب (أحكام القرآن) قائلاً: (كان أشياخنا يحاسبون أنفسهم على ما يتكلمون به، وما يفعلونه، ويقيدونه في دفتر، فإذا كان بعد العشاء حاسبوا أنفسهم، وأحضروا دفاترهم، ونظروا فيما صدر منهم من قولٍ وعمل، وقابلوا كلَّ شيء بما يستحقه، إن استحق استغفاراً استغفروا أو توبةً تابوا، أو شكراً شكروا، ثم ينامون في راحةٍ واطمئنان. قال ابن عربي: (فزدنا عليهم نحن في هذا الباب محاسبة أنفسنا على الخواطر، فكنَّا نقيِّد ما نحدِّث به أنفسنا ونهمُّ به، ونحاسبها عليه). وأقول: إن محاسبة النفوس على خواطرها إنَّما هو من باب زيادة الحرص عند أولئك القوم، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى قد عفا عن عباده فيما يحدثون أنفسهم به من الإثم إذا لم يحققوه بالعمل، ويحوِّلوه إلى سلوكٍ وفعل.ألستم معي - أيها الأحبة - أن أولئك القوم كانوا جديرين بما وصلوا إليه من المجد والرِّفعة في الدنيا، ونرجو أن يكونوا قد نالوا المقام الأرفع عند ربهم وخالقهم. إشارة: من أراد الاستزادة فعليه بكتيِّب صغير للدكتور علي بن حمزة العُمري اسمه (الصحة الإيمانية وأثرها في حياة المؤمنين). أديب وشاعر وكاتب يومي بصحيفة \"الجزيرة\" السعودية.