في العالم العربي يأتي جهد التفكير مضاعفاً ، الجهد الأول يكمن في تشغيل العقل ، والثاني في مواجهة اللاعقل المتمثل في طواغيت الكلمة ومَنْ والاهم ، والذين ليس لدنهم مسعى غير جعل الآخرين لا يفكرون ، أو في أحسن الأحوال يفكرون في نطاق محدود جداً يقل مساحةً عن زنزانة. لعل الشواهد على ذلك كثيرة ، وهي غير متمثلة فقط في أقبية السجون وغياهبها ، فالسّجون العقلية أشد قبحاً وأكثر قمعاً من القضبان الحديدية . إن العقل العربي معتقل ٌ منذ عقود ،إنْ ليس قبل قرون، والأنكى هو أنه إذا انعدم وجود سجّان العقل ، فإن صاحب العقل نفسه هو من يزج به في زنزانة ، إما خوفاً من عاقبة نشاطه وتحرره ، أو إيماناً منه أن ثمة شخصاً يفكر نيابة عنه فيعطيه هالة مقدسة حتى يصبح تابعاً له وكأنه يلج من جديد في عصر الظلام والأصنام وإنْ كانت أصناماً ناطقة . ينشأ المرء العربي على معتقدات وعلى أمور تصل إلى حد الخرافات ، ويكبُر وهو مؤمن أشد إيمان بها ، من دون أن يسبر غورها ليعرف صوابها من خطئها ، وقافزا فوق حقيقة أن الصواب والخطأ نسبيان وغير مطْلقين البتة . ولعل جل ما يعرفه هو أنّ فلاناً أفتى بكذا ، أو أن فلاناً قال ذلك ، وكأن ذاك الفلان هو الحقيقة المطْلقة التي لا يجوز التشكيك فيها ولا مسها ، ويا ويل من فعل ذلك ! . إن الوضع الفكري الراهن لدى العرب هو بمثابة حصار بالبوارج والمقاتلات والجدران الحديدية ، ليس من العدو ،إنما من أبناء جلدتهم . فمن أراد أن يتحرر من تبعيّة الصنم البشري ، ويسعى أن يكون حراً طليقاً في فكره وتعبيره ، تصدمه بوارج الإرهاب الفكري ، ومقاتلات المنابر العنكبوتية التي في حقيقتها أوهن من بيت العنكبوت ، فيتلقى سيلاً عرمرماً من الإتهامات والإفك والتكفير والتخوين والشتائم ،بحجم كرم العرب بالموائد والولائم ، إلى حد الإيذاء الجسدي . هذا الحصار الفكري ، نجم عنه أحكام إعدام لكتب ومؤلفات وإبداعات فنية ،وإيذاء جسدي ولفظي بحق أصحابها ، وما يجعل المصيبة أعظم ، هرولة أعداد كبيرة من العرب نحو تأييد مثل تلك الأحكام الجائرة التي تضع العرب في خانة التخلف الفكري وديكتاتورية الكلمة ، بدلاً من الانتفاض بقضهم وقضيضهم ضد هذا القمع وكبت الحريات . إنّ كثيراً من العرب ينتفضون ضد مقال أو لوحة فنية ، ولا يراهم المرء منتفضين بنشاطهم ،الباعث على الحسد، ضد جندي احتلال يعتدي على امرأة أو يقتلع شجرة موغلة بجذورها في تاريخ الحق ، لأن عقولهم ببساطة اقتُلعت من جذورها وسُجّيت على أسرّة الموت الإكلينيكي. في ظل هذا المشهد ، يمسى عقل الحر كالكاميكازي الياباني الذي لم يجد غير الإقلاع بطائرته الحربية لصدمها ببوارج العدو . هكذا هو حال المثقف العربي ، مع فارق أنه لا يريد الانتحار ولا التهلكة ، لكنه يسعى إلى إنقاذ العقل من الانتحار الفكري ، وإنقاذ الأفراد من تهلكة التبعية العمياء ، فيظهر كما لو شاء لنفسه انتحارها . فعلى المثقف العربي إما أنْ ينتظر إعصار الروح المقدسة حتى تهزم المغول الجدد من العرب ، أو أن يكون هو الإعصار فلا يخشى المغول ولا غولَهم .