معظم ما يكتب في الصحافة يتناول الأزمة المالية العالمية الحالية باعتبارها أزمة اقتصادية لاأكثر، يمكن فهم أسبابها ودرء مخاطرها داخل إطار العملية الاقتصادية . ولا تشير الغالبية العظمى إلي ما هو أبعد من الاقتصاد والبورصة وسيطرة الطبقة المالية المصرفية ، أي إلي الجذور السياسية للأزمة . لا يسأل أحد عن العلاقة بين الأزمة وتكاليف الغزو الأمريكي للعراق ؟ وأفغانستان ؟ وتكلفة حشد قوات حلف الناتو على حدود روسيا ؟ وتكلفة الدعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل؟ والتكلفة الباهظة لبرامج الدرع الصاروخي الأمريكي والتسلح؟ . الأهم لايسأل أحد عن صلاحية نظام رأسمالي تدفعه الأزمة إلي إحراق الغذاء واستخدامه كوقود حيوي بينما يجوع ملايين البشر، خاصة أن تلك ليست أولى أزماتها ، فقد سبق أن عصفت بها أزمات مماثلة من قبل أشعلت إحداها نار الحرب العالمية الأولى ثم أزمة 1975 ، وأزمة 1981 ، وأزمة 2001 . تطرح الأزمة الحالية من جديد أهمية منهج التخطيط ، وتدخل الدولة ودورها، وهو ما لجأت إليه الدول الأوربية كلها وأمريكا للتخفيف من حدة الكارثة . هل تعتبر الكارثة حدثا عارضا ؟ بسبب فئة حولت الرأسمالية إلي كازينو قمار يقوم على مبدأ المخاطرة من أجل أقصى ربح ؟ أم أن الكارثة في صميم ذلك النظام الرأسمالي ؟ بحيث لا يمكن تجنبها إلا بنظام آخر؟ وأيديولوجية أخرى؟. لقد خيبت الأزمة آمال الذين أكدوا بعد زوال الاتحاد السوفيتي وحتى وقت قريب أن الرأسمالية هي المحطة الأخيرة لقطار البشرية . وأعادت الأزمة الكثيرين إلي مبادئ الاقتصاد المخطط ، ودور الدولة ، في مواجهة فوضى الربح الرأسمالي . ولم تكن مصادفة أن يمسك وليم كريستول المعلق السياسي لجريدة نيويورك تايمز على أوباما المرشح للرئاسة الأمركية استشهادا بعبارة من كارل ماركس . والآن فلنصف الأزمة التي يمر بها العالم والتي تسببت في خسارة بمقدار مئة وخمسين مليار دولار في دول الخليج وحدها ، إنها : " الرعب الذي يستشعره كل بلد حديث ..فبعد عدة أعوام من الازدهار والصفقات الجيدة، تبدأ الهمسات هنا وهناك: في الصحف والبورصة، حيث تسري بعض إشاعات الإفلاس المقلقة، ثم يصبح لإشارات الصحف معنى واضح ومحدد، وتضحي البورصة أكثر قلقا، فيما تزيد مصارف الدولة نسبة الحسم، أي أنها تجعل من الإقراض أمرا أكثر صعوبة وتقلصه حتى تبدأ أخبار الإفلاس تهطل كالمطر. ثم ما أن تندلع الأزمة حتى يبدأ النقاش والنزاع لمعرفة المسئول عنها. يقول رجال الأعمال إن المصارف هي المسؤولة بسبب رفضها القاطع تقديم القروض، ويشاركها في المسؤولية رجال البورصة بسبب تكالبهم على المضاربة، أما رجال البورصة فيحملون المسؤولية للصناعيين، وهؤلاء بدورهم يرجعون السبب إلى شح النقد المتداول في البلد.. وهكذا دواليك " . هذا هو وصف الأزمة الحالية بالدقة ، ليس من عندي ، فقد جاء في كتاب " الاقتصاد السياسي " لروزا لوكسمبورج منذ مئة عام ! والسبب في أن هذا التوصيف للأزمة – رغم انقضاء قرن من الزمان - ينطبق بدقة على الأزمة الآن ، هو أن القانون الرئيسي للرأسمالية ، قانون التنافس الحر لم يتبدل ، ولم يتبدل تغييب كل تخطيط وتنظيم ، مما يجعل ثمار النشاط الاقتصادي للبشر بعيدا عن إرادتهم . ولايعني ذلك القانون سوى الاعتراف بأن الفوضى هي أساس النظام الرأسمالي . ولهذا فالأزمة المالية العالمية الحالية هي في واقع الأمر أزمة سياسية ، أزمة نظام وأيديولوجية ، وقد انعكست آثارها السلبية وسوف تنعكس علينا ، على الأقل بتقليص حجم المساعدات المقدمة لدول العالم الثالث. وربما نكون بحاجة الآن إلي إعادة النظر في صحة الالتزام بروشتة صندوق النقد والبنك الدولي التي دعتنا إلي نبذ دور الدولة ، والتخلي عن التخطيط والقطاع العام وللتنمية . الجانب الأكثر خطورة الكامن في الأزمة السياسية العالمية الحالية ، أن الرأسمالية اعتادت حل أزماتها الاقتصادية بتصديرها للخارج بإشعال الحروب، وهناك ما يمكن أن تجده الأزمة سببا للحروب في إيران ، ودول أمريكا اللاتينية التي يعلن بعضها عداءه الصريح لأمريكا . أيا كان ، فلا يمكن النظر إلي الكارثة التي وقعت باعتبارها " لعبة الاقتصاد " بعيدا عن السياسة . ...