هما أخوان تلازما منذ أقدم العصور فلا تجد أحدهما إلا وجدت الآخر في صحبته فلا يستطيع أحدهما أن يعيش في غياب الآخر، وهما أيضاً قديمان قدم الإنسان ذلك أن الله خلق الإنسان من تراب ونفخ فيه من روحه، فإذا تغلبت الروح سما الإنسان وترفع عن الأنانية والشهوانية والأثرة وتعالى عما يعيب ويخدش المروءة، أما إذا تغلبت التراب اثاقل الإنسان إلى الأرض وطغت عليه الأنانية والشهوانية وهضم حقوق الآخرين. فكما أن الخير موجود في الإنسان أصيل فيه، فإن الشر موجود في الإنسان أصيل فيه، فإذا وجد هذا ا لشر تربة خصبة نما كالنبت الشيطاني وتمدد وتفرع، وهو بطبيعته أسرع نمواً وأشد انتشاراً من الخير، لأن النفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات وإشباع الرغبات ولذلك قال- صلى الله عليه وسلم- (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) فالتزام الخير يحتاج إلى رياضة ومكافحة وعزم. أما الفساد فإنه استسلام للشهوات التي فطر عليها الإنسان، ولذلك فإن زرع حب الخير في أفراد المجتمع حتى يصبح ذلك ملكة فيهم هو السد الأول الذي يقف في وجه سيول الفساد، ولا يتأتى ذلك إلا بالتربية السليمة والتمسك بأهداب الدين. إن الفساد والبطانة الفاسدة شر مستطير وخراب أكيد وضررهما بليغ فهما يؤديان حيث وجدا إلى توقف الاقتصاد والتنمية وانهيارها وضياع مصالح المواطنين والمجتمعات وانتشار الفقر والبطالة بل يتعدى أذاهما إلى الحكومات التي سقط العديد منها بسبب هذا الثنائي الخطر (الفساد والبطانة الفاسدة) فقد سقطت حكومات في أمريكا الجنوبية وفي أوروبا وآسيا وإفريقيا والشرق الأوسط، وما أحداث سقوط الأنظمة في تونس ومصر، والقذافي يشن حرباً ضروساً على شعبه من أجل التشبث بالسلطة وهو في نزعه الأخير، واليمن السعيد يشهد أحداثاً مريرة جعل دول المجلس تبحث عن مخرج بسلام للرئيس اليمني، وسوريا عمتها المظاهرات والمصادمات الصاخبة المنادية بإصلاحات جذرية سياسية واقتصادية واجتماعية. وإيران تغلي من الداخل فالمعارضة ومن أقطابها رفسنجاني وخاتمي وغيرهما كثر منذ انتخاب نجاد (المتعصب) وإعلان أن الانتخابات مزورة لم يهدأ ذلك البلد ووضعه الداخلي ينذر بخطر كبير ولم يجد ضالته سوى بتصدير أزمته الداخلية بشن حرب إعلامية شعواء كاذبة على دول المجلس وتحديداً ضد بلاد الحرمين الشريفين. لقد أصبح الفساد كارثة كبرى في معظم بلدان العالم وبالطبع الدول العربية والإسلامية في مقدمتها فمثلاً في باكستان التي تخلى فيها الرئيس السابق برويز مشرف عن الحكم وكان قد (جمد) أحكاماً وقضايا ضد بعض الفاسدين قبل مغادرته كرسي الحكم ولكن بعد أن تولى الرئيس الجديد زيباري وقبل أن يمضي على مدة حكمه عامان أصدرت جهة القضاء في ذلك البلد قرارات قضائية بمحاكمة الرئيس الجديد بتهم الفساد وشملت تلك القرارات القضائية المطالبة بمحاكمة أكثر من (8000) بتهم الفساد!! والأمر ليس أحسن حالاً في أفغانستان والعراق والصومال، والفساد ظاهر في الدول العربية يرفع رأسه عالياً ليقول (ها أنذا) وأصبحت الفضائح وقصص الفساد معلومة للقاصي والداني دون رادع أو عقاب، وتصدرت الدول العربية قوائم الفساد الدولية التي تصدرها الهيئات والمنظمات المهتمة بمحاربة الفساد حتى إن أذرع الفساد طالت الجهات التي قامت الدول في ظل العولمة بخصخصتها فتفشت الرشاوى والمحسوبية في هذه الجهات المملوكة أصلاً للحكومة، وقامت بتخصيصها فأصبحت مرتعاً للفساد بكل صنوفه وأشكاله في ظل العولمة حتى أصبح الفساد أسلوباً مميزاً لفوز الشركات المحلية والدولية بعقود المقاولات والمناقصات والصفقات التجارية. إن الفساد من رشاوى ومحسوبية وسرقات وتزوير وغش وتدليس وكلها معان لاستخدام الوظيفة العامة والمنصب العام لمصالح شخصية غير مشروعة في ظل بيروقراطية إدارية ومالية.. في كل المستويات العليا والمتوسطة والدنيا تخدم أغراضاً شخصية.. كالروابط الأسرية والقرابة والعلاقات القبلية والعشائرية في ديارنا العربية والإسلامية. لذا أصبح الفساد متفشياً ولا ينطره إلا مغالط ولا ينكر رؤيته إلا أعمى حتى أصبح الفاسدون هامات عالية يستهينون بالقوانين والأنظمة واللوائح والأعراف والأخلاق، ووصل الأمر بهم إلى تبادل مباشر أو غير مباشر للمنافع فيما بينهم، في سلسلة معقدة وسرية لا يعرفها إلا هؤلاء المتنفذون من عبيد الفساد في كل معاملاتهم المخالفة للقوانين حتى يصبح من الصعب بل من المستحيل اكتشافها أحياناً وإخضاعها لطائلة القانون، كل هذا يحدث تحت مظلة استغلال النفوذ ولي عنق القوانين. ولأن الفساد يعد عاهة كبرى في أجسام الاقتصادات والمجتمعات والدول فقد حظي باهتمام المنظمات الدولية لقياس مدى خطورته، ومن هذه الهيئات (منظمة الشفافية الدولية) ومقرها العاصمة الألمانية برلين وهي منظمة غير حكومية جاء تأسيسها عام 1995 وهدفها مكافحة آفة الفساد وتقوم بإصدار تقارير عن الفساد توضح فيها ترتيب الدول حسب درجة الفساد فيها، ومن سوء الطالع أن الدول العربية والإسلامية تتصدر قائمة الدول فساداً ومعها دول القارة السمراء. والفساد في ديارنا ليس حكراً على فئة دون فئة أو طبقة دون طبقة، فإذاكان منتشراً بين علية القوم المتنفذين من أصحاب المناصب العليا والمتوسطة وما دونها فإنه كذلك منتشر بين الموظفين الأقل أجوراً متعللين أن الرواتب التي يقدمها القطاع العام غير كافية لتغطية نفقاتهم، هنا يقوم صغار الموظفين في ظل البيروقراطية العمياء من الاستيلاء على ما يستطيعون الاستيلاء عليه بشكل إكراميات أو رشوة أو مكافآت أو غيرها. وبذا تتعاون أيدي الفساد على تقطيع أوصال إيرادات الدول الأمر الذي نتيجته الحتمية تدني نفقاتها على ما فيه صالح المواطنين الذين يجب أن تسخر لصالحهم ميزانية الدول سواء كانت إيرادات من موارد طبيعية أو ضرائب أو غيرها لرفاهيتهم، ولكن الواقع أن نسبة كبيرة منها تذهب إلى جيوب فاسدة وهذا ينعكس أثره السلبي على الاقتصاد والتنمية والموارد البشرية ويعكر صفو تنفيذ أولويات السياسات العامة لما فيه المصلحة العامة، بل وفوق ذلك ينشر الفساد التذمر والقلاقل السياسية والتخلف وكلها معاول تؤدي إلى التأخر والتخلف. وعلى الجانب الآخر فإن عمل الفاسدين هذا يؤدي إلى نزوح الاستثمارات وضياع المدخرات وبروز التفاوت في توزيع الدخول بين المواطنين بسبب عدم التوفيق في تخصيص الموارد في وجوهها الصحيحة لسيطرة الفاسدين على مقدرات الدول المالية والاقتصادية والإدارية وتوجيهها لما يخدم مصالحهم الشخصية تحت مظلة البيروقراطية الواسعة المتصلبة محاطة بمركزية جامدة فأصبحت عاجزة عن مواجهة الفسدة تحت مظلة تنظيم إداري ومالي غير كفء عاجز هو الآخرفي ظل قوانين مشلولة الإرادة طوقها الفاسدون من كل جانب، حتى أصبح تقديم الرشاوي للبيروقراطي لكي يتناسى واجبات وظيفته والأمانة التي حملها ذائعة الصيت بين الناس رغم أن البيروقراطي الفاسد يجري كل معاملاته الفاسدة في السر في معظم الأحوال حتى أصبح من الصعب تتبعها ورصدها، وإن كانت أفعالهم معروفة لدى من أسند إليهم الأمانة في أغلب الحالات خصوصاً بعد أن تفوح رائحة الفساد والرشوة ويعلمها القاصي والداني. وإذا كانت الرشاوى التي تفرض على المواطنين لحصولهم على خدمة ما لتسيير مصالحهم تثقل كاهلهم، فإن الرشاوى التي يحصل عليها بعض المسؤولين مقابل تمريرهم لمناقصة أو صفقة لمصلحة الدولة، ترفع التكلفة الكاملة للمشروع الأمر الذي يلحق الضرر الجسيم بخزانة الدولة، بل إنه يجعل بعض المتنافسين الأكثر كفاءة وخبرة وقدرة على تنفيذ المشروع يحجمون عن الدخول للحصول على المشروع المطروح في مناقصة، بسبب ابتزازهم لتقديم رشاوى، والنتيجة الحتمية زيادة تكلفة المشروع والخاسر هنا الدولة ومواطنوها والكاسب الوحيد الفاسدون إن كان في الحرام كسب!! ولذا وجدنا أن قيمة المشاريع في الدول العربية المنتجة للبترول مثلاً تساوي أكثر من أربعة أضعاف أمثالها في الدول المتقدمة التي تعمل بجد واجتهاد لمكافحة الفساد. رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الإستراتيجية