قدّم الناقد الدكتور محمد ربيع الغامدي، خلال الحلقة النقدية التي نظمها نادي جدة الأدبي ورقة نقدية بعنوان (من قيم المعرفة: الاستقلال :مقاربة في العلاقة بين المعرفي والإيديولوجي) أكد فيها أن المعرفة" و"الأيديولوجيا" قطبان متقابلان تقابل الأضداد، بحيث يمكن القول إن الأفكار والأطروحات لا تقترب من أحدهما إلا بالقدر الذي تبتعد به عن الآخر. وفي التفاصيل، شهدت الحلقة التي أدارها الناقد سعيد السريحي مداخلات عدة من الحضور وكان من أبرز الحضور الناقد علي الشدوي والدكتور سحمي الهاجري والدكتور عبدالرحمن السلمي والدكتور صالح الحجوري والدكتورة لمياء باعشن والدكتورة أميرة كشغري والدكتورة فاطمة اليأس .
وذكر الغامدي في مقدمة ورقته: يُسلِّم اليوم كثير من الباحثين في الفكر النقدي الحديث بأن القطبين: "المعرفة" و"الإيديولوجيا" قطبان متقابلان تقابل الأضداد، بحيث يمكن القول إن الأفكار والأطروحات لا تقترب من أحدهما إلا بالقدر الذي تبتعد به عن الآخر.
وكأنَّ الأفكار والرؤى المختلفة لا بد أن تكون على ما يشبه المسطرة المدرَّجة التي تُظهر قدر اقترابها من المعرفة بقدر بعدها من الإيديولوجيا أو العكس. هذه الصورة تمثل أحد أهم أوجه العلاقة بين البعدين (المعرفي والإيديولوجي) وأخطرها.
وأضاف أن الخطورة تكمن في أن هذه العلاقة كثيراً ما تتخفّى فلا تُرى، بل ربما تنزلق بعض الأطروحات والأفكار والرؤى إلى نهاية المسطرة المدرجة من ناحية الإيديولوجيا وتتراءى للكثيرين أنها في أقصى الطرف الآخر المقابل، كما سيأتي لاحقاً.
وأوضح الغامدي أن الإيديولوجيا المتحدث عنها في هذه الورقة أُشيرَ إليها بصيغة المفرد للدلالة على المفهوم العام الشامل؛ لأننا يمكن كذلك أن نتحدث عن المفهوم بصيغة الجمع (إيديولوجيات) للإشارة إلى أنواع متعددة منها، كإيديولوجيا الدين، وإيديولوجيا الهوية أو الهويات المختلفة كالأعراق والقبائل والطوائف... إلخ. وتوظف الورقة هذا المفهوم العام الشامل ليقابل مفهوماً عاماً آخر هو "المعرفة" بصيغة المفرد، لا (المعارف) بصيغة الجمع. ومعنى الإيديولوجيا العام الموظف هنا من حيث هو الوجه المقابل للمعرفة يوافق تحديد العروي للمفهوم بأنه: تخير الأشياء.
وركز الغامدي في ورقته على محاولة إبراز بعض أهم تفاعلات البعدين (المعرفي والإيديولوجي) ومناحي حركة الأفكار والأطروحات بينهما. وستتم الإضاءة على هذه التفاعلات من خلال الحديث عن إحدى قيم المعرفة، هي قيمة "الاستقلال" المنصوص عليها في العنوان. وقد كان اختيار هذه القيمة دون غيرها محكوماً بأمرين، أحدهما: أنه لا مناص من اختيار فكرة واحدة فقط والتضحية بما عداها.
وتابع : الآن يتعاضد كلّ من "الاستطباع الثقافي" و"الاستحواذ العقائدي" في السيطرة على عقول البشر، ويقومان معاً بدور الممانعة والإعاقة ضد تحقق قيمة الاستقلال. وما يزيد هذا الأمر سوءاً أن المؤسسات التربوية ترى أن وظيفتها الرئيسة وأولى أولوياتها تكريس ما تفعله الثقافة من "استطباع."
وأكمل: من هنا يُمكن تفهُّم أسباب عدم التنبه إلى المفارقة الواضحة التي كان ينبغي ألا تغيب عن بال أحد في القناعة بهذا الدور المزيف للتربية، ومن هنا أيضاً يمكن فهم السبب الحقيقي والعامل الأقوى وراء ندرة تحقق قيمة الاستقلال الضرورية في الواقع. ولقد أصبحت العلاقة كما هو واضح بين عدم تحقق قيمة الاستقلال وكل من الاستطباع والاستحواذ علاقة جدلية؛ إذ إنهما معاً يؤديان إلى عدم الاستقلال كما مر، ويؤدي عدم الاستقلال إلى تكريس كل منهما.
وفي ظل ذلك غاب تماماً فهم الدور الروحي الحقيقي للتربية وهو الإعانة على "اكتساب الفهم الإنساني".
وحول التداخل بين المعرفي والإيديولوجي (التبرير العقلاني): قال الغامدي" مع أن القطبين: (المعرفة الإيديولوجيا) يعدان في موضع التقابل والتضاد كما مر يحصل كثيراً جدّاً خلط أحدهما بالآخر. إذ كثيراً ما تُعرَض الأفكار والأطروحات المختلفة ويعتقد أصحابها أنها معرفية خالصة، في حين أنها لا تنتمي بكاملها إلا إلى الإيديولوجيا وليس فيها من المعرفة شيء. وهذا الأمر هو أخطر ما في العلاقة بين هذين القطبين.
وزاد : يحصل التداخل والخلط المنوه عنه أعلاه في سياقات متعددة مختلفة، ومن أهم السياقات التي تستدعي التداخل وتحرض عليه سياق القضايا المتعلقة بمكونات الهوية، كاللغة والعرق والديانة والطائفة والعشيرة والثقافات الخاصة المميزة ونحو ذلك. والسر في ذلك يعود في أغلب الأحوال إلى ما يكمن في هذه القضايا من الجانب العاطفي "الذاتي" الذي يكون في العادة مشحوناً بطاقة قادرة على مزجه بالجانب "الموضوعي"، بل والظهور بمظهره.
وهنا يمكن القول إن هذا البعد يقوي الممانعة من حصول الاستقلال الضروري للموضوعية، وبالقدر نفسه يُظهر مدى تعالق ثنائية (الموضوعي الذاتي) بثنائية (المعرفي الإيديولوجي) بصورة واضحة.
وأردف : هناك أمرٌ يحضر في هذا الجو من التمازج والتداخل؛ فيجعل ما هو إيديولوجي يبدو وكأنه معرفي، لفت الأنظار إليه موران، هو ما سماه ب "التبرير العقلاني" في مقابل "العقلانية". وفي سبيل توضيح هذا البعد الخطير يقول: ((النشاط العقلاني للفكر هو ما يسمح بالتأكيد بالتمييز بين اليقظة والحلم، الخيال والواقع، الذاتي والموضوعي)).
وعاد الدكتور الغامدي ليوضح أن "التبرير العقلاني" يبدو في مقابل "العقلانية" هو المسؤول بصورة أو بأخرى عن كثير مما يُسمى اليوم "علوماً" أو "معارف" مما لا ينتمي إلى المعرفة أصلاً ولا يتصل بها بحالٍ من الأحوال، ومع ذلك يسود الاعتقاد الجازم بأنها من صميم العلم والمعرفة. كما يبدو أن التبرير العقلي هو المسؤول أيضاً عن إحلال قيم غير معرفية محل قيم المعرفة. بل لعله هو ما شكل الصورة النهائية ل "المنهج" في عمومه كما هي صورته في أذهان كثيرين.
وفي هذه الظروف لا بد من أن تغيب قيمة "الاستقلال" مثلما يغيب غيرها من قيم المعرفة. وفي الوقت نفسه يمكن إن عكسنا المقدمات والنتائج أن نقول: إن غياب قيمة الاستقلال هو المسؤول عن التبرير العقلاني، وبالضرورة ربما يكون من الوجاهة بمكان القول: إن حضور قيمة الاستقلال هو المانع المحصِّن من التبرير العقلاني.
يُذكر أن اجتماع أعضاء الحلقة النقدية لمواصلة نشاطها مجدداً ووفقاً لبرنامج الحلقة الذي يزمع النادي من خلاله التوسع في رؤى وأهداف الحلقة لتكون نواة مدرسة جدة النقدية وهي تستوعب كل الأطياف والرؤى وتفتح الأبواب للمشاركة تحت مظلة النادي، وكما سبق القول فإن كل حلقة واجتماع موضوع دورته تطرح للنقاش والدراسة والمداخلة.