قال الأستاذ الدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي أستاذ العقيدة بكلية الدعوة بالجامعة الإسلامية إن تغيير المنكر في الشريعة لا يعني بالضرورة إزالة المنكر أو استبداله بغيره، كما أن الاحتساب ليس من لوازمه هداية المدعو أو امتثاله للأمر والنهي. جاء ذلك في محاضرة له بعنوان "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الأمر الشرعي والواقع الكوني القدري" ضمن فعاليات مؤتمر "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمستجدات المعاصرة" الذي ينظّمه كرسيّ الأمير نايف بن عبدالعزيز لدراسات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالجامعة الإسلامية. وحول مفهوم تغيير المنكر، قال الرحيلي: إنه لا يشترط فيه أن يكون استبدالاً للمنكر بغيره، حيث إن المطلوب في تغيير المنكر ما دلت عليه الأدلة، فالحديث ورد فيه الأمر بالإنكار بالقلب في الدرجة الأخيرة، ومعلوم أن المنكر بقلبه لا يغيّر المنكر ولا يستبدله، ومع ذلك فقد سُمي إنكاره تغييراً، للدلالة على أن التغيير له مفهوم شرعي، ولا يستلزم استبدال المنكر وإزالته. وقال إن مراتب التغيير الثلاث لها حدود شرعية، فالتغيير باليد يكون لصاحب السلطة وصاحب الولاية في حدود ولايته، والإنكار باللسان يشترط فيه عدم التعدي والظلم في الكلام، والتغيير بالقلب قد لا يظهر معه أي علامة على أن الشخص قد أنكر المنكر، وهذا من أكبر الأدلة على أن تغيير المنكر لا يلزم منه الإزالة، لأن الإنكار بالقلب مأمور به في الحديث ومع ذلك لا يطلع عليه إلا الله عزّ وجلّ. وردّ الرحيلي على من ادّعى أن الإنكار بالقلب لا يحصل إلا بالخروج من موقع المنكر، قائلاً إن هذه الشبهة باطلة، لأنّ هذا ليس هو المراد من الإنكار بالقلب، ومع ذلك فلو جمع بين الإنكار بالقلب والخروج مع أمن الفتنة لكان أفضل. وقال الرحيلي إن من مصطلحات الحسبة "الإعذار" ومعناه أن يكون للمحتسب عذرٌ عند الله عز وجل يوم القيامة بأنه قد أنكر المنكر، وهو يتحقق بحدود الاستطاعة ولا يلزم من الإنكار هداية صاحب المنكر، لأن الهداية بيد الله وحده وما على الرسول إلا البلاغ. وأورد الرحيلي عدة شبهات في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدعوى أنه لا يضرنا ضلال من ضل، احتجاجاً بقول الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، حيث فسّر حذيفة رضي الله عنه هذه الآية بقوله: "إذا اهتديتم أي إذا أمرتم ونهيتم"، وقال العلماء إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الاهتداء الذي تشمله الآية، فكيف يكون المسلم مهتدياً وهو لم يمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإنكار وتغيير المنكر. وقال إن من الشبه قول من يقول إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يُشرع إذا استجاب الناس، والناس اليوم لا يستجيبون، ففي هذه الحالة لا فائدة من الدعوة، وهذا يجاب عليه بأن المأمور به هو الإنكار، وأما الاستجابة فليست شرطاً لأن الهداية بيد الله، كما أننا لا نستطيع الجزم بأن المدعو لن يستجيب لأن هذا من علم الله. وأكد الرحيلي في محاضرته أن النظر إلى المعاصي التي تقع من العباد ينبغي أن يكون بعين القدر وعين الشرع. وقال: في جانب القدر يجب اعتقاد أن المعاصي والذنوب مقدّرة على العبد وقد قسمها الله تعالى كما قسم الأرزاق والآجال، وذلك مع اعتقاد أنها من فعل العبد، فهي مضافة إلى الله على سبيل الخلق كما قال تعالى "والله خلقكم وما تعملون"، ومضافة إلى العبد على سبيل فعله لها، وتقدير الله عز وجل لها لا يخرجها عن فعل العبد. وحول المعاصي العامة والفتن التي تقع فيها الأمة، قال الرحيلي: "إن وقوعها أمرٌ قدريٌّ محتّم، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن وقوعها، إلا أن الله تعالى حفظ هذه الأمة في دينها وعقيدتها فلا تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم". وأنكر الرحيلي الاحتجاج بالقدر على وقوع العبد في المعاصي، مؤكداً أن ذلك سبيل المشركين الذين ردَّ الله تعالى عليهم حين قالوا: "لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا"، فقال تعالى: "كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا". وحول فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الرحيلي: إن الأوامر الشرعية دالّة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مرجِّحاً أنه واجب كفائي إذا قام به من يكفي من أفراد الأمة سقط عن الباقين. ونبِّه إلى أن الإنكار يكون وفق الضوابط الشرعية التي قررها العلماء استنباطاً من الأدلة، ومنها معرفة المنكر وإنكاره إذا علمه عرضاً من غير تجسس، وكون المنكِر من أهل العلم حتى لا يقتحم الباب بعض الجهلة فيأمر بالمعصية وينهى عن الطاعة، ومنها التدرج في الإنكار، ومراعاة الموازنة بين المصالح والمفاسد، حيث لا ينكر المنكر بما هو أعظم منه، ولا بما يساويه. وعرّج الرحيلي في محاضرته على أهم المصطلحات الشرعية التي عليها مدار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخاصة ما ورد في حديث أبي سعيد الخدري في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". وقال إن الرؤية في الحديث قد يُفهم منها اشتراط الرؤية البصرية، وهذا فهم قاصر وإنما قال العلماء المراد بالرؤية هنا العلم سواء بالرؤية البصرية أو السماع أو غيرها. وأضاف أن العلماء نبهوا إلى أن هذه الرؤية تكون من غير تجسس ولا تتبع لزلات المسلمين والاطلاع على أسرارهم والتجسس في هذا المقام مذموم، وإنما يكون بعد ظهور المخالفة وانتشارها، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية إن إنكار البدعة إنما يكون على من أظهرها، وأما من تستّر عليها فلا يُتجسَّس عليه. وبيّن الرحيلي أن المراد بالمنكر في الحديث ما أنكره الشرع بالأدلة، بغضّ النظر عما أنكرته الطباع أو العادات، حيث يقوم بعض المتعجلين بالإنكار على ما يرى من أمور قد لا يوافقها طبعه، وهذا ليس مقصوداً في الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُحرّم أكل الضب مثلاً مع كرهه له بطبعه، ومع ذلك لم يحرمه شرعاً لمجرد كره نفسه له، وكذلك لما أحب النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأطعمة كالعسل لم يشرعها للأمة ويأمر بها لمجرد حبه لها، فالمنكر ما ثبت تحريمه بالأدلة. وحول الإنكار على مسائل الاجتهاد، قال الرحيلي إن العلماء نبّهوا على عدم الإنكار على مسائل الاجتهاد، لأن أصحابها يعتقدون أنهم على حق فلا يُنكر عليهم، وهذا يختص بمسائل الاجتهاد ولا يشمل جميع مسائل الاختلاف، لأن بعضها مما يسع فيه الاختلاف وبعضها مما لا يسع فيه الاختلاف، ولو مُنع الإنكار في جميع المسائل الاختلافية لما جاز الإنكار على أهل البدع والمعتقدات الفاسدة، لأنها مما لا يسع فيه الاختلاف.