بعد أن غادر الشعراء العراق وانتشروا في العالمين العربي والغربي كلاجئين من لهيب الحرب، لم يغادرها الشاعر جواد حطاب، إذ برز لمقاومة الاحتلال بقصيدته فلقبه العراقيون بشاعر المقاومة، وأوضح الحطاب أن لقب شاعر ضد الاحتلال، شرف لا يدعيه، وقدم لنا عن رؤيته الشعرية، مؤكدا على أن تجربة الشعر السعودي أدهشته، وعرج على علاقته بقصيدة النثر، ونفى أن يكون له أب شعري، وهذا ما بينه في هذا الحوار: الشعرية تتأزّم مع الزمن، ولكن متى كانت انطلاقتك الشعرية؟ شكّل منتصف السبعينات، محطّة كبيرة في انتباه النقاد إليّ، فلم يكن اسم «الحطاب» معروفا في الوسط الثقافي بسبب عزوفي عن الاختلاط، فضلا عن بعد البصرة عن مركز العاصمة التي تشكّل «بروجكتر» الثقافة والشهرة، ولاسيما أن الجيل السبعيني الذي حسبني «التجييل» عليه شهد انطلاقة غير مسبوقة في الشعرية العراقية، من حيث عدد الشعراء، أو الأشكال الشعرية الجديدة التي حاول فرسانه التميّز فيها، والمغامرة لإثبات الذات، والمغايرة. أين موقع الشعر العراقي من الخريطة العربية حاليا بعد أن غادره معظم الشعراء؟ الشعراء العراقيون، كما نخيل العراق، بلدان كثيرة أخذت من نخلاتنا ما هو مشهور بحلاوته، وزرعتها في مدنها، وكل النتائج قالت إن الطعم لم يكن مثل طعم تمرها أيام كانت بتربة العراق، ولا عيب في تراب المدن الجديدة لكنه وفاء النخل لنشأته، ومثلها الشعراء، فشاعر مثل سعدي يوسف، وفوزي كريم، وخزعل الماجدي، وفضل خلف جبر، وعبد الرزاق الربيعي، وعدنان الصائغ، وخالدة خليل، وريم قيس كبه، ودنيا ميخائيل، بعضهم غادر العراق منذ عقود، وبعضهم من سنوات، لكنهم لا يزالون في صلب الشعرية العراقية، ولا يمكن فصل كشوفاتهم الإبداعية عن المشهد الداخلي، بل إن احتكاكهم بالمدن الجديدة أضاف شكلا جديدا وأفقا أوسع للتجربة. وبشكل عام، فإن غالبية الأدباء العرب كانوا يحجون إلى مرابد العراق، فقط ليقولوا «إننا قرأنا في مربده»، وسأكتفي بقول محمود درويش «الشِّعْرَ يُولَدُ في العراقِ، فكُنْ عراقيّاً لتصبح شاعرا يا صاحبي». الشعر يتهاوى أمام صعود الرواية، هل لأن الشعر لم يعد يستوعب المتلقي، أم أن هناك أسبابا أخرى باعتقادك؟ نعم .. لصعود الرواية، لأن «الأرقام» تقول ذلك، ولا أحد ينكرها، ولكن متى كان الشعر -كمعطى حسي- معني بالأرقام التي تحيلك إلى «الرياضيات» وإلى «الحساب»؟ الشعر هو صنو الروح الإنسانية في أعلى تجلياتها، ومن دونه سيبقى الإنسان عبارة عن أفعال، وردود أفعال بايلوجية ليس إلا، وسأسألك أنا -أخي سعد-، إذا أردت أن تختلي بعائلتك، أو أن تعبّر عن امتنانك لأمّك، إذا شئت أن تتفاخر بمنجزات وطنك، هل تقرأ من تحبّ فصلا من رواية «الحب في زمن الكوليرا»، أم تردّد مقاطع من «الأم» لمكسيم غوركي على أسماع والدتك، أم تقف وسط ساحة المدرسة بجوار العلم وأنت تلوّح بيديك هازجا بمقدمة جبرا إبراهيم جبرا ل «الصخب والعنف» الفوكنرية؟ أعود وأقول: إن الشعر هو «الإحساس» الإنساني، وإذا ما بطل – الإنسان وإحساسه- فإن بإمكانك أن تقول إنّ الشعر قد انهزم، ليس أمام الروائيين فقط، بل حتى أمام المنادين على «النفط، وقناني الغاز» في الطرقات، وبين شوارع البيوت. ما هي قصة «الإخوة جعفر»؟ «الإخوة جعفر» تجمّع شعري مبدع وإن كان بلا بيان تأسيس، أو إعلان عن مشروع مغاير، وإن جمعت أبطاله مؤسسة أدبية واحدة، وزمالة عمل في أنشطة ثقافية متعدّدة، وقد جمع العنوان من الأحرف الأولى لجواد الحطاب، وعدنان الصائغ، وفضل خلف جبر، وعبد الرزاق الربيعي، فصار (جعفر) والمفرح انه هذا التجمّع لا يزال فاعلا، وتواصلنا يتنامى، ففضل أصبح ناقد الإخوة، وعبدالرزاق الربيعي مسؤولها الإعلامي، وعدنان الصائغ ناشرها، أما أنا فقد بقيت كما أنا: المشاكس وصاحب المقالب الذي يحذره الآخرون. ما هي علاقتكم بالمشهد الشعري السعودي، وكيف ترونه؟ حين نتحدث عن المشهد الشعري السعودي فإننا لا يمكن أن ننسى تجارب شعرية لافتة فاجأتنا في منتصف ثمانينات القرن الماضي خلال مشاركاتها في المرابد الشعرية، وأذكر من تلك التجارب: عبدالله الصيخان ومحمد جبر الحربي ومحمد الثبيتي وخديجة العمري، هذه الأصوات قدمت صورة جديدة فيها من المغامرة والابتكار الكثير، وتتعزز الصورة من خلال ما نطالعه من نصوص مدهشة لعلي الدميني، وأحمد الملا، وزكي الصدير، وسواهم من الأصوات الشعرية التي تؤكد غنى هذا المشهد، وأظن إن تجاربه المبدعة بحاجة إلى الاحتكاك، والانفتاح على محيطنا العربي خصوصا في المدن الثقافية المهمة التي تشكّل حواضن تبشيرية بالمواهب، والطاقات، كبغداد، والقاهرة، وبيروت والمغرب العربي. بداية الشعراء لا تخلو من الأب الشعري .. هل كان البياتي أبا شعريا لكم؟ بدءا أقول لك: أنا ابن شرعي لكل الشعر العراقي، ولم تحبل بي الشعرية العراقية خارج الرحم، والشاعر الذي يربط مرجعيته، أو مكوّناته بشاعر واحد -مهما علا شأن هذا الشاعر- ستكون قصيدته عارية أمام مؤثرها ومتلقيها بآن واحد، فجواد الحطاب الذي أمامك، يقف على أكتاف شعراء عراقيين وعرب وعالميين لايحصون، وهم من رفعوني بحيث أصبحت منظورا لصحيفة «عكاظ» وقرّائها، وسأزعم إن ثقل تجربتي لن تستطيع أن تتحملها أكتاف شاعر واحد بعينه. ماذا عن تجربتك في قصيدة النثر؟ لا أريد الخوض في تاريخ قصيدة النثر، وقدمها في الشعر العربي، أو الشعر العراقي تحديدا، وذلك لوفرة المعلومات عنها في «الشبكة العنكبوتية»، وبالتالي فإن الوصول إلى تخومها، ومن ثم الولوج يعتبر شيئا طبيعيا، وليس من غضاضة في الأمر. بالنسبة لي، ابتدأت مع القصيدة العمودية، وكتبت نصوصا اعتبرتها «تمرينات» لضبط الوزن، والتمتع بموسيقاه، واكتشاف القدرة على «حياكة» الأبيات الشعرية لإنتاج نص متكامل أشبه ما يكون ب «بساط شعبي» متناسق الألوان، وبصياغة تنمّ عن القدرة، والمكنة الأدبية، حتى إذا تمّ لي ذلك اتجهت إلى «قصيدة التفعيلة» وثورتها التي فجّرها السيّاب، وأول قصيدة منشورة لي كانت من هذا النوع، أو النمط الشعري، واستمر هذا الاتجاه عبر أول ثلاث مجموعات شعرية لي؛ ليتمّ التحول بعدها كليّا لقصيدة النثر، فيما تلا تلكم الحقبة من دواوين. وها أنت ترى أنّ وصولي إلى القصيدة النثرية لم يأت انهزاما من قيد «الشعر الأصولي» إذا جاز لي أن اسمّي الشعر العمودي هكذا. ما موقفكم في تخافت الشعر أمام معاناة المواطن العربي؟ الهيمنة -اليوم- للإعلام، وكلنا نعرف كيف أدار هذا الإعلام موجّهات العقل العربي، وكيف تآمر مع السياسيين على سحب البساط من تحت أقدام الشعراء –تحديدا- وليس غيرهم. قبل أن تخترع هذا المنظمة الضاغطة، الهائلة، ويوم كان الفضاء الإعلامي مسرحا للراديو الأثيري، كانت قصيدة واحدة من قصائد الجواهري -على سبيل المثال- قادرة على إخراج سكّان العاصمة بغداد وعن بكرة أبيهم، للشوارع في تظاهرات تمتد أياما، وقد يقع فيها قتلى وجرحى، وقد تسقط الحكومة جرّاءها. أما ومع البث الفضائي، والخطب السياسية المتأطفة - نسبة للطائفة- والمحللين الإستراتيجيين، فقد بات صوت الشاعر، كما في سؤالك، خافتا أمام هموم الحياة اليومية والبحث عن حلول لها عن طريق آخر غير الشعر، الذي يبقى بالتأكيد «غذاء الروح» لكن «صوت البطن» في هذا الزمن الفنطازي أشد وأعلى، ولو إلى حين. شاعر ضد الاحتلال .. ما قصة هذا اللقب؟ بعد التغيير الذي قادته الدبابات الأمريكية، والاستهتار الذي مارسه جنودها بحق عموم الشعب العراقي، وخوف الطبقة المثقفة - في الداخل على الأقل- من تصدّيها للاحتلال والوقوف بوجهه وبوجه ما ارتكبه من تزوير القناعات والادعاء بمقبولية وجوده من قبل أبناء الشعب، وجدت نفسي أمام واجب تاريخي لا يمكن لي أن أدير ظهري له، لأنه - ببساطة - موقف أخلاقي قبل أن يكون موقفا شعريا، وهكذا ابتدأت قصائدي تلاحق المحتلين بلا هوادة، وتمجد المدن المقاومة (الفلوجة – الرمادي – البصرة – الجنوبيون..و..) وما أسعدني حقا هو أن تطبع -مثلا- قصيدتي عن الفلوجة على «إمساكيات رمضان» وتوزّع بين الأهالي كالمنشورات السرية. وباتت الصحافة العربية، تستقبل قصائدي وتذيل اسمي ب «شاعر المقاومة»؛ لأنها أرادت - كما أردت أنا - أن تقول للعالم إن الشعب العربي العراقي، شعب حيّ ولا يمكن لكبريائه أن يقبل على أرضه جزمات محتلين. وفي لقاء معي، سُئلت: هل أنت شاعر المقاومة، قلت: لي الشرف أن أكون شاعرا ضد الاحتلال، أما شاعر المقاومة، فشرف لا أدعيه.