أصبح لدي قناعة بأننا من أكثر المجتمعات التي وظفت تقنيات ووسائل الاتصال الحديثة بشكل سلبي وبعكس المفاهيم والأهداف والأغراض التي صنعت من أجلها، فقد تفشت في السنوات الأخيرة «ظاهرة» انتشار مقاطع الفيديو المفزعة والمثيرة للجدل من خلال الأجهزة الذكية وعبر وسائل التواصل الافتراضي، والتي أصبحت وأمست تصدمنا وتصدم العالم من حولنا بكثير من السلبيات، ودليلا واقعيا وملموسا يؤكد على تفاقم هذه الظاهرة، فبدلا من أن توظف تقنيات العصر لنشر المعرفة وتستخدم في محلها كوسائل لتيسير التواصل ونشر ما هو مفيد، باتت تروج للإشاعات والأفكار الهدامة بل ووظفها البعض لتجهيل المجتمع، ومن أحدث هذه المقاطع السلبية فيديو ذبح ذئب بعد اصطياده من قبل عدد من الشبان في بلدة بجنوب عفيف وأكل لحمه نيئا، في جو من البهجة والسرور والتفاخر! وحصد مقطع «أكلة لحوم الذئاب» أكثر من 120 ألف مشاهدة خلال الخمسة أيام الأولى من بثه على موقع «يوتيوب»، وتداوله مئات الآلاف من رواد مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأسبوع الماضي، وهو ما يستدعي تحرك عدة جهات بشكل سريع، من بينها الهيئة السعودية لحماية الحياة الفطرية، ووزارات الصحة والشؤون الإسلامية والثقافة والإعلام، للتصدي لتبعات هذا المقطع والحد من المفاهيم السلبية التي يروج لها مثل هذا المقطع، حيث من الواضح أنهم يرون في اصطياد الذئاب وأكلها نيئة (افتراسها) شجاعة وفوائد عدة، والبعض يدعي أن أكلها يداوي بعض الأمراض وله منافع صحية، وكل هذا لا أساس له من الصحة، بل العكس تماما، عدا أن أكل لحومها من «المعروف» أنه حرام ولا يجوز شرعا؛ لأنه من السباع المفترسة بنابها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، كما تشير المراجع الطبية إلى أن الذئاب باعتبارها آكلة لحوم (مفترسة)، فإن التعامل المباشر معها ينقل العديد من الأمراض الفيروسية والبكتيرية والطفيلية للإنسان، منها على سبيل المثال لا الحصر، داء الكلب «السعار» والطاعون، وبكتيريا السالمونيلا وبكتيريا الجمرة الخبيثة، وغيرها الكثير. كما تشير دراسات إحصائية موثقة من قبل الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة «IUCN» إلى أن إجمالي أعداد الذئاب في المملكة لا تتجاوز ال500 ذئب، وهي في تناقص كبير وقد تنقرض نتيجة لعمليات الصيد الجائر لها من قبل هواة الصيد وبعض الأفراد، بالرغم من أن هذه الحيوانات محمية بموجب الاتفاقيات الدولية لحماية الحيوانات الفطرية، وتشير مصادر جمعت من باحثين سعوديين إلى أن هذا التناقص في أعداد الذئاب تسبب في خلل بالتوازن البيئي للحياة الفطرية، وهو ما ضاعف من انتشار قرود البابون بما يفوق المعدلات الطبيعية. ونتيجة لهذا التزايد في مخاطر الإخلال بالتوازن البيئي للحياة الفطرية، عقدت الهيئة السعودية للحياة الفطرية الأسبوع الماضي، جلسات ورش عمل عاجلة استمرت ليومين في جامعة الملك خالد حول «مشكلات قرود البابون في المملكة وسبل علاجها»، التي تنظمها الهيئة السعودية للحياة الفطرية بالتعاون مع باحثين من عدة جامعات، بالإضافة إلى مشاركة وزارتي الشؤون البلدية والزراعة وأمانات وبلديات الطائف، الباحة، عسير، المدينةالمنورة، جازان، ونجران، نظرا لخطورة الوضع فعليا، لأن انخفاض أعداد المفترسات مثل الذئاب والضباع والنمور أدى لتزايد قرود البابون بما يفوق المعدلات الطبيعية، وهو ما يؤدي إلى نشر أمراض خطيرة ومعدية من ناحية، وضرب المحاصيل الزراعية من ناحية أخرى. إذن.. انظروا إلى ماذا أوصلتنا «سلوكيات» البعض في سوء استخدام وتوظيف التقنية، فهؤلاء لم يكتفوا بما هم عليه من جهل، بل ساهموا في نشر جهلهم والترويج له عبر وسائل التواصل الحديثة والإعلام الجديد، ولا تعليق على ما فعله أمثال «أكلة لحوم الذئاب» الذين ظهروا في ذلك المقطع المخجل سوى أنهم «ناقصو عقل ودين». وخلاصة القول.. القضية ليست محصورة في المقطع المذكور فقط، بل في مسألة التعامل مع أدوات التواصل الافتراضي وتحويلها من وسيلة تخدم المعرفة إلى معول هدم وأداة ترويج لجهل مركب يسهل نصبه في عقول العوام.. أو كما قال المفكر الجزائري الراحل، مالك بن نبي: «الجهل في حقيقته وثنية لأنه لا يغرس أفكارا بل ينصب أصناما».