تتناول رواية «بائعة الحمام.. قصة حب لم تكتمل» للكاتب سعود بن سعد، الصادرة حديثاً عن دار وجوه، موضوع الهوية الإنسانية؛ وتناقش عبر أحداث مشوقة حقيقة التوهان البشري المتمثل في ضياع العائلة والانتماء لها. كما تجوب في دواخل الأنثى التي تقف أمام المرآة لتجد نصف كائن يبحث عن أجزائه المتناثرة محاولاً جمع شتات الصورة وإعادة تركيبها. فبطلة الرواية «هدى» فتاة تتأرجح بين الاعتراف بها كابنة شرعية، وبين نظرة المجتمع لها كفتاة غير شرعية وهي نظرة يعززها عدم امتلاكها للأوراق الرسمية التي تثبت نسبها. إنها ضحية لمجتمع بأكمله، كما كانت والدتها وكما كان والدها أيضاً؛ إذ لم يتمتع الأب «سليمان» بممارسة سطوته كزوج، لذا يبدأ البحث عن ما يحقق له ذاته بعيداً عن سلطة المال والجاه التي تملكها زوجته، فيكون أن يتزوج من «فاطمة» سراً، وما يدفع «فاطمة» للموافقة هو حاجتها إلى رجل يقيها الفقر والعوز، زوج تشعر معه بالأمان والاستقرار. بعد أشهر على الزواج يترك «سليمان» زوجته الجديدة ويختفي، فيما تعرف «فاطمة» أنها تحمل جنيناً في أحشائها، ويكون أن تأتي «هدى» بكامل يتمها وضياعها. يبدأ إدراك البطلة لضياع هويتها مع أول خطواتها نحو البلوغ لتكون امرأة، رغم أن العديد من التساؤلات الوجودية كانت تتحرك في داخلها وهي طفلة لكنها لم تتبلور وتكتمل إلا في مرحلة متقدمة من عمرها. تتعرف في مسيرة حياتها على الرسام «مختار» الذي يبدل عالمها، ويعيد صياغته بكلماته وألوانه، وعلى الجارة التي تساندها لتتخطى سجن الظروف التي وضعت بها، رغم ذلك تبقى عقدة النقص تعتري «هدى» التي تحاول أن تتجاوزها بالبحث عن والدها، وذلك بعد وفاة والدتها، ورغم أنها لا تلتقيه إلا عبر أوراق كان كتب عليها ما مرّ من أحداث وذكريات، وبما يشبه رسائل اعتذار وندم يوجهها إلى «فاطمة»، إلا أن هذه الأوراق تحقق ل «هدى» نوعاً من الطمأنينة لروحها: «كثيراً ما سألت نفسها مم تخافين؟ لكنها لم تصل إلى إجابة عن السؤال، ربما كان جزءا منها يدعوها لطي صفحة من الماضي والمضي نحو المستقبل، وربما تخشى نبش الأوراق. تقرر «هدى» الارتباط والزواج، رغم فقدانها للهوية الرسمية وتعويضها بالإنجاز والعمل الذي يمكن عده هوية موازية للهوية الرسمية، وتوفر لها الظروف فرصة اللقاء بوالدها كما توفر لوالدها فرصة للسؤال عن تلك الابنة، لكن في اللحظة الحاسمة تقرر هي أن لا تفتح الباب وتعبر إلى ذلك الأب الغائب، ويقرر هو أن يكتفي بقراءة روايتها التي سجلت فيها أحداثاً تمسه، فيعيد الرواية إلى مكانها بينما تفلت هي قبضة الباب وتبتعد عن المكان الذي يتواجد فيه والدها. تقوم الرواية على سرد مركب، فالوقت الذي يبدأ فيه الأب قراءة رواية «بائعة الحمام»، هو ذاته الوقت الذي يقرأ فيه المتلقي الرواية أيضاً، وكذلك هو الوقت نفسه الذي تكتب فيه الرواية؛ بمعنى أن الرواية تُكتب وتُقرأ ويتم فعل التلقي فيها في آن واحد، ولذا تبدأ من دخول الأب إلى المكتبة واختياره للرواية والبدء في قراءتها، ليبدأ القارئ مواصلة التلقي معه، ثم نكتشف عبر الأحداث أن البطلة هي الكاتبة نفسها التي تعمل على إنجاز روايتها الأولى «بائعة الحمام». وتقترح الرواية التواصل بين الشخصيات عبر الورق فقط، تأكيدا على أن الحياة بمجملها رواية أيضاً، ف «هدى» تتعرف على والدها من خلال دفتر مذكرات تجده في غرفة حارس القصر الذي كان يسكنه والدها قبل أن يقرر تركه إلى الأبد، والأب يتعرف على «هدى» من خلال روايتها التي تقع بين يديه فيرى في أحداثها ما يشبه حياته، ويدرك في نهايتها أن كاتبة الرواية هي ابنته الوحيدة التي قضى سني عمره باحثاً عنها ليكفر عن خطيئته بحقها وحق والدتها «فاطمة». وهنا تبرز في الرواية الغرائبية والتناقض، إذ في اللحظة الحاسمة للقاء المنتظر/ الحقيقي/ الواقعي يتخلى الطرفان عن مبتغاهما، ويبدو أنه لا ضرورة للقاء المباشر؛ إذ ما هي «الحقيقة» وسط كل هذه الأحداث المتصارعة والمواقف الغريبة.. «الحقيقة» أيضا كما كل شيء في الحياة لها وجوه عدة، وكما هي الهوية أيضاً: «كانت هدى تبتسم من أعماقها لما يدعونه (أحداثاً خيالية) لأن ما في الرواية هو الشطر الأكثر بياضاً في حياتها، والأقل قسوة.. كانت دوما تردد ممازحة مختار: (لو أقول إن ما في الرواية هو اليسير من حياتي الفنتازية فلن يصدقني أحد)». ومما يحسب للكاتب سعود في هذه الرواية التي تعد الأولى له بعد عدة كتب تهم الأسرة وتلامس هموم الإنسان وهواجسه، اقترابه من عالم المرأة عبر اختياره لبطلة امرأة، وقدرته على التعبير عن أفكارها وهواجسها من منظورها الأنثوي الخاص، لا منظور الكاتب الرجل. كما جاءت الرواية وفق لغة شفافة، وأحداث مركبة تشعر القارئ بأنه يدخل متاهة من العوالم المختلطة، والأحداث المتداخلة، وكأن الرواية تؤشر (سواء عبر بطلتها التي اختار سعود لها أن تكون كاتبة، أو عبر عوالمها المتعددة) على ما يعتري الكاتب نفسه من تحد كبير وقت الكتابة.