عبدالرحمن صباغ صديقي الجميل رجلا ان تراه خير من أن تسمع به فهو كذلك فعلا كرنفال فرح وطيبة رجل مؤدب وعلى خلق.. حجم خوفه على بلاده لا يوازيه حجم خوفه على أي شيء أو على أي كائن آخر في الكرة الأرضية.. لم يتهالك يوما على مجد ولم يذهب إلى بيت الشهرة ولم يزاحم أي كائن على منزله أو وظيفة رجل أفنى زهرة رجولته وعطر مراهقته ورائحة شبابه في خدمة الناس فختار الأمجاد كلها.. يفوح بيننا ويسكن فينا ويعشق اللحظات التي نكون فيها سويا.. ربما يعشق أن نكون معا لتصبح اللحظات غنية أكثر مما يراها أو يعيشها سوانا.. يستفزني من حين لآخر بسؤال أو تعليق أو ملاحظة.. كتب لي مستفزا عن حادثة تمنيت لو أن الأرض انشقت وبلعتني قبل أن ترى عيناي ذلك المجرم التافه ويده تمتد بدون تردد لذيل «الجرو الصغير» الضعيف وتجزه بالسكين على الملأ.. كان سؤال «الوجيه» هل ثمة في الدنيا إنسان بهذا القبح.. وماذا جرى حقا «يا أبا فراس» لهذا العالم المحنط الذي غادرته الرحمة والشفقة ؟؟ وهل مات المعلم فينا ؟! أم أنكم يامعشر الكتاب لم يعد أحد ينصت إليكم !! كان يحدثني وانا اعود بذاكرتي إلى ما وراء قحف الجمجمة تلك عادتي أن أجمع بعض الذكريات وأربطها بما يجري في حياتنا اليومية.. عدت صوب طفولتي وصباي حيث العطر الخالص حاضرا في أدق تفاصيل الذاكرة وأكثرها افتتانا تذكرت «معلمي» رجلا اخذ بيدي في «المدرسة الابتدائية المشعلية بمكة» وعلم أصابعي كيف تمسك القلم وترسم بالكلمات زودني بالخرائط السرية «للرحمة» دون ان يدري.. وعلى الرغم من أن ذلك الكبير هو تحت التراب الآن إلا انني ما زلت أجده حاضرا.. ما زلت أتذكر ملامحه جيدا.. ما زال الموقف الذي أستعرضه لكم هنا من العهد الجميل مقيما في ذاكرتي النحاسية.. ما زلت أستحضر بشغف وسط هذا اليباس المحيط بنا أوراق ذلك الرجل الأخضر النبيل الرحيم لتغسل عن وجهي أحزاني وخيباتي ورائحة الأسى المنبعثة من كل صوب.. رجل تعلمت منه أشياء كثيرة لم تستطع عشرات الكتب أن تمنحني إياها.. كان معلمي معروفا بين المعلمين والطلبة وأولياء الأمور بالشدة والقسوة في معاقبة الكسالى والمشاغبين لكن هذه الحكاية ستكشف لكم عن أن القسوة كانت في عصاه فقط وأن الرأفة والرحمة كانتا تسكنان قلبه.. أذكر ذات صباح مكاوي جميل كانت حمامة بيضاء تحلق فرحة بزرقة السماء في فناء المدرسة وبينما هي تنعم بالحرية انقض عليها صقر بني اللون وبعد معركة دامت بينهما ثواني قليلة أفلتت الحمامة من مخالبه وضمت جناحيها والقت بجسمها الصغير على ساحة المدرسة تلوذ بوداعة الأطفال وبراءتهم وحبهم للحمام.. كانت ترتجف وتنزف دما خضب ريشها الأبيض الناعم ففزعوا من منظرها وأشفقوا عليها وفورا أقبل «معلمي» حاملا إليها العلاج والضماد وجاء بها إلى صفنا وتركها في ركن منه وأوصانا أن لا نقترب منها، وظل أياما يرعاها ويطعمها ويحنو عليها حتى شفيت.. هذه القصة لا زالت تستيقظ في رأسي رغم مسافة الثلاثة أرباع من العمر التي مرت.. موقف واحد راسخ في الذاكرة يتجاوز أطنان الكلام الذي يقال على الموائد والمنابر حيث يموت فورا ما أن ينتهي الطعام أو تنقضي الخطبة وحتى الكلمات المنثورة في الجرائد والتي تمسح بها بعض العوائل زجاج البيت وتفرش عليها وجبات الطعام يتبخر المنشور فيها في اليوم التالي، لكن ذاكرة الإنسان لن تغفل ابدا عن موقف «معلم» أصيل قدوة وهب سنوات عمره من أجل هذا السحر العظيم الذي يسمونه «التربية» والتي على أكتافها تنهض وترتقي وتتطور الأمم.. إن التعليم بنوعيه الكمي والكيفي هو الطريق إلى الخلاص من مستنقع الجهل والتخلف والذي أهم عناصر نجاحه «المعلم المربي» الناجح المحب لعمله الذي يسهم في فتح العقول وشحذها لا برمجتها وأدلجتها وتدجينها !!.