تأتي الدراما على رأس قائمة الأدوات الأكثر تأثيرا في المتلقي، حيث لها إسهامها الفاعل في تشكيل وعيه بذاته وما يحيط به، وتملك القدرة الكافية لإشاعة منظومة قيمية تسير حياته وفقها. دعونا استهلالا نؤكد أننا قبل انطلاق الموسم الرمضاني الحالي لم نكن نحلم بجديد وكان أفق التوقع لدينا يقول إن السباق الدرامي لن يتجاوز الدوران في فلك مناقشة قضايا اجتماعية بائتة سبق أن تم تناولها مرارا وبسطحية حد الابتذال. الدراما السعودية على وجه التحديد قبل حلقة سيلفي التي تحدثت عن (تنظيم داعش) كانت متهمة بأنها تدور في فلك التهريج والتسطيح ومناقشة قضايا هامشية لا تشكل هاجسا يهدد وجودنا، بدليل أنها لم تستطع تجاوز قوالبها المكررة طوال السنوات الماضية. وأمام انخراط شبابنا في هذه التنظيمات الإرهابية تباعا، سنعلم حجم الإهمال إن لم نقل التقصير الفظيع الذي ترتكبه الدراما المحلية التي يكاد السعوديون يجمعون على تفاهة محتوى معظمها وخلوه من المعنى والهدف، لاسيما في رمضان. مع عجزها الظاهر عن التطرق لقضايا محورية تهم الوطن وأمنه والتي من أبرزها خطر التنظيمات الجهادية المتطرفة وعلى رأسها تنظيم داعش الإرهابي حتى أن المعركة مع التنظيمات بدت لنا كمتابعين وكأنها معركة أمنية فقط يخوضها رجال الأمن بمفردهم. حلقة سيلفي أتت لتزيح هذا الاتهام عن كاهل الدراما السعودية، وبهذه الحلقة الفارقة دشنت الدراما السعودية مرحلة جديدة من عمرها الفني. وكشفت الحلقة عن إمكانية لعب الدراما لدور مؤثر وقوي وفاعل في كشف وتحليل وفضح الفكر الإرهابي وأساليبه وحيله وممارسته وإغراءاته للجيل عندما تمكن خلف الحربي وناصر القصبي وأوس الشرقي من تقديم حلقة استثنائية عن تنظيم داعش الإرهابي. تضافرت فيها خبرة وقدرات خلف الحربي الكتابية مع إمكانيات ناصر القصبي كممثل بارع وتوجت تلك المنظومة الدرامية ببراعة المخرج أوس الشرقي ورؤيته البصرية المدهشة وأدواته الإخراجية المتميزة، وشكل هذا الثلاثي ما يمكنني تسميته (العمود الفقري للعمل) وهو ما أحدث الفارق ومعهم ظفرنا بحلقة استأثرت بالمشاهد وحفلت بالكثير من الإثارة الفنية والمتعة البصرية وتخللتها جرعات عالية من الكوميديا الجميلة والمعبرة والساخرة والاداء الفني المبهر الذي قام بدور الكشف لخفايا هذا التنظيم الإرهابي، حيث تم توظيف إمكانات الدراما الكبيرة لإيصال رسالة قوية للمشاهد جعلتنا نعيش اللحظة ونقلتنا الحلقة ببراعة إلى عمق الحدث بتمكن لافت. اختصرت الحلقة الكثير مما يمكن أن يقال عن خطورة تنظيم داعش وعن ممارساته وعن أساليبه الرخيصة لإغراء الشباب وممارساته البشعة والهمجية. والملاحظ أنه رغم أن فريق العمل هو تقريبا نفس عمل فريق واي فاي إلا أن الحضور كان مختلفا ومتوافقا مع الحالة الدرامية لطبيعة الحلقة التي تحتاج أداء جديا متزنا بعيدا عن التهريج. وهذا يحسب للمخرج أوس الشرقي الذي نجح في إخراج الممثلين من شخصيات (واي فاي) التي استأثرت بهم لعدة مواسم، حيث التحول في أداء الممثلين ملمح لا تخطئه عين المتابع. وكذلك فإن كاريزما الحضور للممثل (ناصر القصبي) وقدراته رفعت سقف الاداء للفريق ككل، حيث كان أداء ناصر القصبي عميقا وكبيرا نجح به في تسجيل حضور يشكل نقطة فارقة في مسيرته الفنية. وقد أحالني أداء ناصر الاستثنائي في الحلقة إلى أداء وحضور عادل إمام، حيث خطر ببالي وأنا اشاهد الحلقة وربما كثير من المتابعين عادل إمام كاسم فني كبير، وقد استحضرت اداء الفنان الكبير عادل إمام في أعماله الكبيرة ومن بينها دوره في الإرهاب والكباب وأنا أشاهد ناصر القصبي وهو ما يجعلني أقول أن ناصر هو (عادل إمام دراما السعودية)، الملاحظ أن الحلقة بدت كما لو أنها مقطع عرضي أو بانوراما تطوف بنا في عوالم التنظيم وحياة أفراده وما يقدم لهم من إغراءات وما يعيشونه فعليا خلال التحاقهم بالتنظيم سواء على صعيد الإغراء المالي أو الإغراء بالمتع الأخرى كالزواج من الحسناوات والجواري أو بخلع الألقاب الفخمة عليهم فضلا عن إغراءات الشهادة والفوز بالجنة والنعيم الأخروي عبر الأحاديث والفتاوى المختلفة. هذا العمل خطوة جبارة تؤسس للكثير من الأعمال الدرامية التي تلعب دورا مهما في محاربة الفكر المتطرف وتقدم لنا نموذجا جيدا ورياديا في إمكانية دخول الدراما كشريك فاعل وحقيقي في حربنا ضد الإرهاب، خصوصا وأن الحلقة صورت لنا معاناة الأسر جراء سفر أبنائها للالتحاق بالتنظيم وبينت حجم الاسى الذي تتعرض له الاسر الذي يدفع بالأب إلى السفر للبحث عن ابنه الملتحق بالتنظيم معرضا نفسه لمخاطر جمة بحثا عن فلذة كبده، وفي النهاية يلتحق بالتنظيم مرغما ويعيش تفاصيله دون أن يكون له خيار آخر. ولا شك أن هذه الحلقة تجعلنا نحلم بمزيد من الأعمال والقصص الدرامية التي تكتب دفاعا عن الوطنية الحقة ووقوفا إلى جانب الوطن في معركته ولمناصرة قضايانا والوقوف إلى جانب قوى الحق والعدل، وتلك التي تفضح كثيرا من مآسينا العربية التي هي أكثر من أن تعد حيث التهجير والقتل والتدمير والبراميل المتفجرة وظلم الإنسان لأخيه الإنسان واستبداد الطغاة، مفردات يومية نشاهدها ونلمس آثارها ويتلظى بها الإنسان العربي ويكتوي بنارها. وكم نحتاج محاربتها وفضحها عبر الدراما، حيث رسالة الفن الأولى الانحياز للحقيقة.