تأخذ الكتابة الإبداعية اتجاهات مختلفة، وذلك تبعا لنوعية اهتمامات الكاتب وعلاقته المفترضة مع القارئ. ذلك أن بعض الكتاب يرون فيها وسيلة لإقامة علاقة صداقة مع الآخرين، في حين إن البعض منهم يرون فيها رغبة دفينة، ليس في التواصل مع الآخرين فحسب، وإنما أيضا، وهذا هو المهم في نظرهم، وسيلة لمعرفة ذواتهم والتخلص من همومهم الذاتية قبل غيرها. وإذا كان الأمر يسير في هذا الاتجاه، فإن الكتابة كما يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في كتابه المعروف «ما الأدب؟» هي وسيلة التزام مع الآخرين من جهة، ولكنها مع ذلك باعتبارها فنا، فهي تحقق أو تسعى لتحقيق ما أطلق عليه هو بالفرح الجمالي من جهة أخرى. وإذا كان هذا هو شأن الكتابة الإبداعية، فما هو يا ترى شأن القراءة المرتبطة بها؟ وما هي شروط تحققها تبعا لرغبات القارئ القائم بها؟. هنا يطرح الإشكال. ذلك أن القارئ لم يعد حسب الدراسات النقدية الحديثة مجرد مستهلك لما يقرأ، وإنما هو فاعل فيه ومتمم للمعنى الكلي له، بل إنه هو الذي يصنع للكتابة وهجها ويمنحها إمكانية الاستمرار من عدمها. بل إنه هو الذي يشيد ويبني مجد الكاتب أو يهدمه تبعا للسياقات المتعلقة برواج الكتاب المنشور من جهة، وتبعا للظروف المتحكمة في الذوق الشخصي من جهة أخرى. وحين نقول الذوق الشخصي، فإن هذا الأمر يتجاوز القارئ العادي ليصل أيضا إلى القارئ المثقف الذي يحمل خلفية ثقافية. في هذا الصدد، أستحضر ما ذهب إليه الباحث الفرنسي تزفيتان تودوروف في كتابه «الأدب في خطر» حين دعا إلى ضرورة أن يحب القارئ الأدب وأن يقرأ النصوص الأدبية التي يحبها؛ لأنها تمنحه متعة جمالية قبل أن يقوم بعملية تشريحها وفق مناهج اجتماعية أو بنيوية أو سيميائية أو غيرها. كما ركز على أن القارئ غير المتخصص وهو يقرأ الأعمال الأدبية، فهو يفعل ذلك لا ليتقن بشكل أفضل منهجا للقراءة، ولا ليستمد منها معلومات عن المجتمع الذي أبدعت فيه، بل ليجد فيها معنى يتيح له فهما أفضل للإنسان والعالم وليكشف فيها جمالا يثري وجوده. إن القراءة هنا تصبح وسيلة لمعرفة الذات ولتحقيق متعتها الشخصية وهي تغوص في العوالم التخييلية التي يحققها لها الأدب، سواء أكان شعرا أو سردا أو كتابة أدبية مفتوحة على تعددية الأجناس داخلها. وإذا كان القارئ العادي يختار نوعية الأدب الذي يحقق له هذه المتع الجمالية، وهذه اللذات النصية بتعبير الكاتب الفرنسي رولان بارث، فإن القارئ المثقف يسير وفق هذا الاختيار حين يتعلق الأمر باختيارات الشخصية بعيدا عن اهتماماته المعرفية أو الأكاديمية التي تلزمه باختيار نوع أدبي معين لعملية قراءته وتدريسه بعد ذلك. هنا نجد الأحكام المتعلقة بنوع الأدب المقروء تختلف من قارئ لآخر. ولتوضيح ذلك نجد على سبيل المثال أن الكاتب المغربي عبدالفتاح كيليطو، وهو الخبير بالأدب العربي والأدب الغربي في تقاربهما وفي تباعدهما، قد يعجب تبعا لذوقه الشخصي بالشعر السهل الذي يسلس له معناه، لكنه في المقابل نجد أنه قد قام بتدريس شعر الشاعر الفرنسي ستيفان مالارمي، وهو الشهير بشعره المستعصي. يقول في هذا الجانب في حوار أجراه معه كل من الكاتبين المغربيين حسن نجمي وخالد بلقاسم، وتمت إعادة نشره مؤخرا في كتابه «مسار» ضمن مجموعة من الحوارات الأخرى التي أجراها معه كثير من الكتاب، ما يلي: «أميل إلى الشعر الذي يخاطبني مباشرة، أفضل أن أفهم القصيدة لأول وهلة، ولكني كجامعي يمكنني أن أدرس الشعر الغامض وأشرحه وأقترح له تأويلا». كما أنه، وكما يشير في نفس هذا الحوار، قد تأثر في بداياته وهو يافع بمؤلفات الكاتب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي، في حين إنه لم يعجب قط بمؤلفات الكاتب اللبناني الشهير جبران خليل جبران. يقول في الصدد ما يلي «هكذا فلقائي مع الأدب العربي، بل مع الأدب الأوروبي، كان عبر المنفلوطي. أما جبران فلم يكن له تأثير على مساري، نصوصه تنطوي على رثائية قد تجذب في مرحلة المراهقة، لكنها تصبح منفرة فيما بعد». إن الذوق الشخصي قد يختلف من كاتب لآخر، فقد نجد كثيرا من الكتاب العرب الذين أثر في مسارهم جبران خليل جبران، وهم تبعا لذلك يفضلونه على المنفلوطي، ولكن هذا لا يغير في الأمر شيئا بالنسبة لمسار الكاتب عبد الفتاح كيليطو، بل إنه على العكس من ذلك قد يمنحه تفردا خاصا به. نفس الأمر يتعلق بمفكر ومثقف مغربي كبير هو عبدالله العروي، فهو لا يرى في رواية أمبرطو إيكو الشهيرة «اسم الوردة» عملا عظيما، بل إنه يشك في أن يتم اعتبارها بعد عشرين سنة كإحدى قمم الإبداع الإنساني، كما أعلن في الحوار الذي أجراه معه الكاتب محمد الداهي ونشر في كتاب «عبد الله العروي من التاريخ إلى الحب»، بل إنه يرى أن حتى أعمال فيودور دوستويفسكي لم تتوفر على ذلك العمق المنسوب إليها، والذي قد يجده فيها القارئ السطحي والساذج. كما أنه يرى أن الكاتب العربي نجيب محفوظ لم يعر في رواياته العديدة أية أهمية إلى مسألة الوسيلة اللغوية، وهي مسألة مهمة جدا في الوعي الفني في كتابة الرواية وفي قدرتها على التعبير عن روح الشخصيات المتحدث عنها. إن هذا الرأي الشخصي هنا يأخذ قيمته الثقافية نظرا للخلفية الثقافية الموسوعية التي يمتلكها صاحبه ونظرا للتحليل العميق الذي برهن به على صحته. ومع ذلك فإن هذا الرأي لا يمنع من القول بأن المفكر الروسي الكبير ميخائيل باختين قد بنى نظريته في التعدد اللغوي على روايات فيودور دوستويفسكي، واعتبره روائيا كبيرا وعميقا، كما أن الكاتب نجيب محفوظ قد حقق للرواية العربية صيتا عالميا، وما زالت رواياته تترجم إلى معظم لغات العالم وتحظى بالشيوع والمتابعات النقدية الرصينة. لكن مع كل ذلك فما أحوج الأدب إلى مثل هذه الآراء الشخصية العميقة التي تمنحه أبعادا أخرى وتخلخل كثيرا من مسلماته.