هل تأنف من قول لا أدري عندما تكون لا تدري؟! هناك بعض من الناس يتحاشون قول لا أدري، متى سئلوا عن أمر لا يعرفونه، وكأني بهم يرون ذلك عيبا ينقص من قدرهم، فيأخذون في اللف والدوران في الحديث والتأليف ليوهموا المستمع إليهم أنهم يدرون، ولا يشعرون أنهم بفعلهم ذاك ما زادوا أن أكدوا أنهم لا يدرون وكشفوا جهلهم بما سئلوا عنه!! في التراث العربي، نجد قدرا كبيرا من التبجيل لمن يقدم قول لا أدري متى كان لا يدري؛ كقولهم (قول لا أدري، نصف العلم) و(هلك من ترك لا أدري) و(من ترك قول لا أدري، أصيبت مقاتله) و(من قال لا أدري، فقد أفتى)، وغيرها من العبارات التي ترفع من شأن قول لا أدري متى غابت المعرفة. ولعل أول من قال (لا أدري) إقرارا بعدم المعرفة هم ملائكة الرحمن الذين قالوا: (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت علام الغيوب)، فالملائكة الكرام لم يأنفوا من نفي العلم عن أنفسهم والاعتراف بجهلهم وقصور علمهم، ولم يبادروا إلى ادعاء المعرفة والخوض فيما لا يعلمون. وغالبا، معظم الذين يدعون المعرفة ويتعالون عن قول لا أدري، هم أولئك الذين لا يملكون ثقة كافية في أنفسهم، فيخشون إن هم أفصحوا عن عدم معرفتهم أن يفقدوا تقدير الناس لهم، كما يفعل أحيانا بعض المعلمين والمعلمات، الذين متى تعرضوا لإحراج التلاميذ لهم بأسئلة لا يعرفون أجوبتها، أحجموا عن قول (لا أدري)، وبادروا إلى الإجابة كيفما اتفق بحسب ما يظنون أو يتخيلون، مطمئنين إلى أن التلاميذ لن يكتشفوا جهلهم مهما كانت إجاباتهم غير صحيحة. (أبو العباس المبرد)، العالم النحوي والبلاغي المشهور، من الشخصيات التي عرف عنها أنها لم تكن تقول (لا أدري) أبدا، وفي بعض كتب التراث توجد قصص طريفة تروى عن ادعاءاته المعرفية مثل قصة (القبعض)، وفيها أن جماعة اتفقوا فيما بينهم على اختبار صدق ما يذاع عن كذبه في ادعائه المعرفة بكل شيء، فذهبوا إليه وسألوه عن معنى كلمة (القبعض)، وهي كلمة اختلقوها فيما بينهم لا وجود لها، فقال: القبعض هو القطن، واستشهد بقول الشاعر: (كأن سنامها حشي القبعضا)! فأوقعهم جوابه في العجب والاستغراب، لا يدرون إن كانت تلك الكلمة فعلا موجودة في اللغة، وهم لجهلهم يظنون أنهم اختلقوها، أو إنها فعلا كما يظنون، لا وجود لها، لكن المبرد لسرعة بديهته استطاع شرحها واختلاق الشاهد لها تأكيدا على صدق ما يقول!! ازدادوا حيرة وما خرجوا بيقين، ولكن هل كل مدعي المعرفة بمهارة المبرد؟!.