كلنا متفقون أن أي عمل يقود صوب المساس بأمن الوطن خط أحمر لا يمكن المساومة عليه أو قبول أدنى تنازلات في سبيل إرضاء طرف أو آخر، ومع هذا الإجماع الوطني الذي تتقاسمه كافة شرائح المجتمع ندرك أيضا أن تدابير مكافحة الإرهاب وحماية حقوق الإنسان هدفان لا يتعارضان، بل هما متكاملان ويعززان بعضهما بعضا. المتورط في عمل أو فكر أو دعم مشبوه لا بد أن يكون عرضة للعقاب والجزاء لكن وفق الشريعة الإسلامية الضامنة لكافة الحقوق. هذه المقدمة كانت خلاصة ما خرجت به من جلسة حوار مفتوح مع نحو 30 موقوفا في الجناح المثالي في سجن الحاير في العاصمة الرياض، حيث كانوا يشيدون بما تقدمه الدولة من خدمات ورعاية تأهيلية لهم، لكنهم دونوا لي بعض ملاحظات حول مصير قضاياهم. كنت أعتقد أن الأغلبية من موقوفي الحاير لم يحالوا للمحاكمة بعد وأن التحقيقات لا تزال سيدة الموقف لتبين ما لهم وما عليهم، لكن مصدرا أمنيا رفيعا كشف لي غير ذلك، حيث إن هيئة التحقيق والادعاء العام أنهت 90% من قضايا الموقوفين في سجن الحاير وهي أمام القضاء الشرعي، وتتم حاليا محاكمتهم، والبعض منهم صدر بحقهم أحكام والبعض أطلق سراحهم بعد براءتهم. هذه المعلومة تحديدا كانت صادمة لي لاسيما ونحن نسمع عن سلحفائية الأحكام القضائية في هذا الشأن الحساس، وهي بلا شك ما تدل على عدالة التعامل مع الموقوفين الذين يجدون في تعامل وزارة الداخلية معهم رقيا لم ينكره أحد ولم يجحده أحد حتى المتشددون الرافضون التراجع عن فكرهم. الجناح المثالي في الحاير في جولة قضيت فيها نحو 12 ساعة داخل سجن الحاير، طلبت التوجه صوب غرف السجناء، دخلت الجناح المثالي الذي يقيم فيه حاليا نحو 30 موقوفا ممن عرف عنهم حسن السيرة والسلوك خلال مدد سجنهم، قبل أن أتجاوز بوابة حديدية مررت بأجهزة كشف عن وجود معادن أو أي ممنوعات في إجراء معتاد، قال لي المسؤول عن تلك النقطة: «أحيانا نضبط بعض الممنوعات لدى بعض الموقوفين، ونحرص دوما على دقة التفتيش لضمان سلامة الجميع». قصدت الجناح المثالي حيث فتحت لي أبوابه ومشيت في ممر طوله نحو 60 مترا كانت غرف الموقوفين تتوزع على يمينه ويساره، كل غرفة فيها عدد منهم، كان الصمت يعم المكان، لم أشهد أي أحد منهم على الرغم من أن أبواب الغرف مفتوحة، وما هي إلا لحظات حتى سمع الموقوفون أصواتنا، فبدأت تدب الحياة في الجناح حيث خرجوا لي من كل ناحية، تعالت أصواتهم بالترحيب، وكأنما كانوا على انتظار بهذه الزيارة، مسك بيدي أحدهم وطلب مني دخول غرفته للقهوة كما قال، تبسمت ودخلت معه الغرفة وأثناء حديث مقتضب معه، جاءنا نحو 5 موقوفين وطلبوا منا التوجه صوب «فناء الجناح»، ليكون الحوار جماعيا تحت أشعة الشمس، كانت عقارب الساعة تشير للرابعة عصرا. مضينا فورا صوب الفناء الواقع في نهاية ممر الجناح، أخذت مكاني في صدر الموقع الذي أشبه بالمجلس العربي، وفورا قدم لي التمر مع قهوة عربية قال لي أحدهم: «أنا من أعد هذه القهوة، وأتمنى منك الحكم على مذاقها»، ارتشفت بعضها وقلت له: «تعدل الكيف، سلمت يداك»، وبينما نحن كذلك، قاطعنا موقوف في العقد الرابع من عمره وقال: «الحقيقة أن عكاظ تميزت في جولاتها داخل سجن ذهبان، وكنا ننتظر وصولكم هنا، ما ميزكم هو الإنصاف واختيار المفردات المتزنة، لا بد أن يدرك الجميع أن مفردات الفئة الضالة وما شابهها تشعرنا بالإقصاء فعلا، هناك من زلت به القدم وأخطأ وهناك من تعاطف فقط وكلنا نظل أبناء وطن واحد، وها نحن نعود للحق في هذا الجناح المثالي، كان عملكم الذي تابعناه بدقة هنا محل تقدير وإنصاف فعلا». الإفراج الصحي أجمع الموقوفون على تلك المداخلة وقال لي الموقوف (سعد.ع) وهو شاب في بداية ربيعه الرابع: بعضنا هنا يمر في ظروف صحية قاسية، لدي مثلا مرض عضال ولدي أمر بالإفراج الصحي ولكن لم يتم ذلك على الرغم من قرب انتهاء محكوميتي فقد أمضيت 12 سنة في السجن، لذا أنتظر الإطلاق المشروط، أتمنى أن يطرح هذا الأمر، ولهم العودة لملفي في السجن سيجدون سلوكي مميزا طيلة مدة السجن، لقد تعبت من وضعي هذا وأنتظر الفرج من الله وظروفي الصحية لم تعد تقوى. أحكام براءة رويدا رويدا تنامت مساحة الثقة في الحوار بيني وبينهم، بدأ بعضهم يتحدث بكل أريحية حيث جلس بجواري ثلاثة منهم (ع.ر) والموقوف (م.س) والموقوف (ع.ع) مطالبين بضرورة التفريق في القضايا قالوا: «نتمنى أن يراعي المجتمع ذلك، بعضنا موقوف والبعض صدر بحقه حكم البراءة، نحن الثلاثة صدرت لنا أحكام براءة وننتظر أمر الإطلاق كل ما نخشاه أن ينظر لنا المجتمع بصورة غير مقبولة، وهذا ما يشكل لنا هاجسا في الأمر، ننتظر لحظات الخروج من الحاير والعودة لحياتنا الطبيعية والتعايش مع الناس ونسيان الماضي بكل ما فيه». شمولية العفو كان الموقوف (ع.ش) يرقب حديثنا في صمت ويتبسم، نظرت صوبه وقلت له ما قصتك؟، أجاب: تحولت أخيرا لهذا الجناح المثالي الذي يعد نقلة نوعية في التعامل الجميل من قبل الدولة معنا، نتعايش هنا في ود وإخاء ونمضي أيامنا في القراءة والحوارات المفيدة. حكمت بالسجن 8 سنوات وكل ما أطلب هو توسيع قاعدة العفو ليشمل من صححه أفكاره من الفكر الملوث الذي ابتلي به. العقوبات البديلة بعد هذا الطرح الخاص بشمولية العفو تقاطع معنا الموقوف (ش.ر) مقترحا تطبيق ما يعرف بالأحكام البديلة وقال: «نتعشم فعلا أن تكون هناك أحكام بديلة خصوصا لموقوفي الأجنحة المثالية، مثلا يمكن أن يكمل بعضا من محكوميته في الإقامة الجبرية المرتبطة بالسوار الإلكتروني الذكي، وكذلك يمكن أن يقضي 72 ساعة مع أسرته خارج السجن بدلا من البيت العائلي، قضيت نحو 10 سنوات هنا ورأيت أن أغلب من يصلون إلى الجناح المثالي هم من المميزين سلوكا ومن ابتعدوا عن الفكر الضال، لذا نتمنى أن يحظوا بعقوبات بديلة». أبرز المطالب كان الحوار شفافا مع الموقوفين، كانوا يتفاعلون مع كل مقترح ويثرونه تأييدا ومناقشة، يبادلون الدعابات حينا ويتجاذبون أطراف النقاش الساخن حينا، وأمام كل ذلك طلب من يطلق عليه «الدكتور» مداخلة فقال: «لا أريد أن ترمز لأسمي ولا لقضيتي، فقط انقل وجهة نظري، وللحقيقة لم أكن أرغب في الحديث معكم كوسيلة إعلامية لولا حوارك معنا الشيق، مطالبنا تكمن في أهمية أن يكون هناك تحرك في إعادة النظر في آلية المحاكمات، نعلم أن وزارة الداخلية قد لا تتحمل هذه المشكلة، لكن نريد فعلا أن تكون هناك حل، نعلم حساسية بعض قضايانا لكن نطالب بتطبيق كل هذا على من عرف عودته للحق وعدم مكابرته».