هذه أصعب مراحل الصراع الذي يخوضه الفلسطينيون ضد إسرائيل من أجل الحصول على الحد الأدنى من حقوقهم ممثلة في دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدسالشرقية على حدود الرابع من يونيو عام 1967.. هذه المرحلة الحالية التي دخلنا فيها إلى معايير جديدة مختلفة تماما، وهي معايير غير سياسية أو فوق سياسية، لأن العدو الإسرائيلي الذي يفرض احتلاله علينا بقوة السلاح، يعد أبشع احتلال في ممارساته التي تفوق جرائم البرابرة في العصور القديمة، وتفوق جرائم وممارسات النازية في العصر الحديث، هذا الاحتلال لا يبقي لنا شيئا أي شيء، ويدعي حقه في كل ما لنا، ويتهرب من المنطق السياسي إلى منطق إرهابي غيبي لا يصدقه أي عقل وليس له عنوان سوى عربدة القوة الغاشمة. إن هذ الاحتلال الإسرائيلي الوحيد المتبقي في العالم الذي يعتمد عقيدة التدمير الكامل لحقوقنا وكينونتنا، يتكشف لنا الآن بوضوح أنه حين يكون الموضوع المطروح عليه هو الحقوق الفلسطينية، فإنه لا يؤمن بأي كلمة من منظومات السياسة، فهو لا يؤمن بالسلام لأن المعنى الوحيد للسلام عنده هو إجبار الفلسطينيين على القبول بأنه لا شيء لهم سوى الحياة يوما بيوم حسب معاييره ووفق نواياه السوداء، وهو لا يؤمن بالمفاوضات إلا كما يريدها احتراقا للوقت دون جدوى. وهو لا يقيم وزنا للاتفاقات والدليل أنه يعاقبنا ويجعل حياتنا مستحيلة ويمنعنا قصرا من بناء حياتنا وبناء اقتصادنا، ويسرق أرضنا التي عليها معاشنا ومستقبلنا أمام أعيننا تحت عنوان مبالغ في زيفه وعدوانيته بأن هذه الأرض لازمة له أمنيا أو استراتيجيا أو سكنيا أو توراتيا أو لأي سبب مزيف آخر، وهو الخصم والحكم في كل صغيرة وكبيرة، فلا قيمة عنده لقانون دولي أو إنساني بل لا قيمة عنده حتى لقوانينه نفسها إن كان فيها مجرد منفس صغير لأي فلسطيني، بل إنه يفوق برابرة التاريخ ألف مرة، ويفوق النازيين ألف مرة في الاستهتار بحياتنا على كافة الوجوه، فهو يسجن أبناءنا لسنوات طويلة دون تهمة تحت عنوان الحجز الإداري، وهو ينفي من يشاء من أبناء شعبنا من بيته ووطنه تحت ذريعة قوانين الإبعاد التي استعارها من الاستعمار القديم، وفي مواجهاته اليومية الدموية معنا يقتل بدم بارد الشاهد الوحيد الحي في أي قضية لكي لا يبقى سوى روايته الكاذبة المفضوحة. إذن، فالاحتلال الإسرائيلي بهذا الحجم الهائل من التورط، خرج عن قواعد الصراع السياسي، وأدخلنا في حالة فوق سياسية، حشد فيها كل أساطيره وخرافاته، وكل الرغبات القبيحة لديه، واستسلم فيها لطموحات من هم أكثر تطرفا وغباء وخروجه عن قواعد الإنسانية في نظامه السياسي الإسرائيلي، وبالتالي فإنه يزرع في أعماق هذ الشعب الفلسطيني البطل وأجياله المتعاقبة وجعا من نوع خاص، وغضبا أعمق من كل غضب، وهذ ما نراه الآن في ردود الأفعال التي تنبثق في صفوف شعبنا، والتي بدأت في القدس في الفترة الأخيرة، فقد أصبح واضحا أن هناك غضبا يفوق القدرة على الانطفاء، ويفوق التوقعات. هناك دائما ما هو فوق السياسة، وفوق الحسابات السياسية، وفوق العلاقات الدولية التي تكون الكلمة الأخيرة فيها لموازين القوى، ولولا ذلك، لولا هذ الغضب الذي يتخلق في حدقات العيون وفي نبضات القلب وفي قوى السواعد لماتت الحياة من زمن بعيد.