تناولت ورقتي أمر الهجرتين الدوسيتين إلى عمان: الهجرة الأشهر المرتبطة بحادثة سد مأرب وتفرق أهل سبأ حيث يتداخل التخييل بالتأريخ فيولد لنا حكاية حافظ الرواة على فكرتها الأساسية واختلفوا في تفريعاتها انسياقا وراء متعة التخييل التي تسر الراوي والقارئ معا. أما الثانية فقد انفردت بها مصادر قليلة منها «تاريخ الموصل» فعندما تحدث مؤلفه ابن إياس الأزدي (توفي 334ه) عن أزد الموصل وفيهم من نسول مالك بن فهم الدوسي، تحدث عن مالك نفسه فقال: «كان مالك بن فهم رجلا جليلا في قومه شريفا، وكان منزله – بعد مأرب – السراة، ثم رحل عنها إلى عمان مغاضبا لأهله وبني أخيه بسبب كلبة قتلوها لجاره، فقال: لا أقيم ببلد يستضام فيه جاري، فدخل إلى عمان»، ثم قال: «فسمي الفخذ الذي كان فيه مالك بن فهم بالسراة: فخذ الكلبة وهو اسمه بالسراة اليوم»، ويورد في مكان آخر أن تزاحم الناس في السراة قد دفع بهجرات متأخرة منها إلى عمان، ثم يورد قصة الكلبة مرة أخرى ويؤكد على فخذ الكلبة الذي بقي بعد الهجرة في السراة وما يزال، كما يشير مثل بقية المصادر إلى أن جذيمة الوضاح الذي ملك العراق هو الابن الأكبر لمالك بن فهم. وكتاب الأنساب الذي أورد مؤلفه المؤرخ العماني الصحاري (توفي 511ه) وقد أورد المؤلف تفاصيل كثيرة عن أزد السراة وعمان ولم يتطرق للهجرة الثانية إلا عندما شرع يفصل أيام العرب مبتدئا بيوم «سلوات» الذي قاده مالك بن فهم الأزدي عند دخوله الى عمان، وفي حديثه عن ذلك اليوم أورد حادثة الكلبة وخروج مالك من السراة. جغرافية الهجرة الثانية: في أبيات منسوبة لمالك بن فهم ترد أبناء فهم، ومنهد (منهب) وبني بشير، وسعد اللات، والسراة، وعمان، وبرهوت، وتلهاب، والعرنين وجميعها أسماء قبائل ومواضع معروفة في عمان وفي السراة، فأبناء فهم قبيلة من دوس في عمان وفي السراة حتى الساعة، ومنهب قبيلة من دوس في السراة الآن، وبني بشير قبيلة من زهران في السراة وفي عمان، وسعد اللات بطن من قبيلة في زهران ذات صلة بدوس، والسراة معروفة وعمان أيضا، وبرهوت وتلهاب مجاورة لعمان، والعرنين جبل عظيم في ديار دوس بالسراة مازال مشتهرا باسمه لليوم. وفي أبيات تنسب إلى عامر بن ثعلبة ترد أبيده، وذو الأحقاف، وقملى، وجميعها مواضع في السراة فأبيده واد يأخذ ماءه من السراة ويدفع به إلى تربة ثم الخرمة ثم الهضب حيث يجتمع وبيشة ليرفدا وادي الدواسر الذي تتشتت مياهه في الرمال المحاذي لعمان، وأبيده من ديار الأزد كان وما يزال، خفِف إلى بيده، وقملى موضع بالقرب منه. ونسب إلى سراقة بن مرداس البارقي يرثي عبدالرحمن بن مخنف الغامدي في أبيات تظهر اندماج أزد السراة وأزد عمان، فالشاعر بارقي وبارق قبيلة أزدية سروية وعمانية، وهو يرثي غامديا وغامد قبيلة أزدية سروية وعمانية، وهو يصفه بسيد الأزدين، أزد شنوءة (منها غامد) وأزد عمان (فيهم من غامد). في بعض المدونات التاريخية التي تناولت أخبار الهجرة من مأرب وما بعدها هناك مواضع جغرافية تشكل معجما جغرافيا لدارسي تلك الهجرة: السراة، سراة غامد، سراة النمر، سراة دوس، وادي النهيين، المغسل، وادي أبيده، وادي دحيس، وادي الناصف، جبل العرنين، جبل عويرة، حضوة، قرية الكِلِبة، نجد الكلبة، ثروق، وهذه كلها مواضع باقية بأسمائها في منطقة الباحة (من مواطن الأزد اليوم).