في خضم الأحداث العظيمة، والمصائب الجسيمة، والفتن المدلهمة، التي تطوق عالمنا الإسلامي، لم أكن أتوقع أن يكون مجرد مقطع على اليوتيوب يصور راقيا يقوم بقراءة «رقية شرعية» على قطة تلبسها السحر نتيجة تناولها قطعة لحم بها عمل على حد زعمه، أمر يحتمل أكثر من المرور العابر، مع وصف فاعله ب «الفارغ» لا أكثر.. ولكن كانت دهشتي عظيمة حين طالعت الموضوع على نصف صفحة في جريدة «الحياة» (18828)، وبمشاركة علماء ودعاة، اقتطعوا من وقتهم الثمين للإفتاء في الموضوع من حيث الجواز وعدمه من منظور فقهي. ألهذا الحد بلغ الانصراف بالبعض إلى غاية الخوض في مثل هذه المسائل العابثة، في زمن يتطلع فيه الناس لما هو أكبر من ذلك، فالتطرف تجاوز الحدود، والغلو سيطر على عقول شباب غض ودفع بهم إلى محارق الموت الرخيص، ونذر الفتن أحاطت بالمنطقة في مسلاخ تنظيمات اختطفت الإسلام وعبثت برسالة المحبة والسلام فيه.. ألم يكن لهم في ذلك منصرف وغاية تستوجب جهدهم عوضا عن الخوض في مثل هذه المعابثات التي يطفح بها اليوتيوب بلا رقيب!. ألم يدركوا أن مثل هذه الأمور توجب ردا يحمل التسفيه لمجرد عرضها أو طرحها، على نحو ما فعل أبو حنيفة أن رجلا سأله: إذا نزلت في النهر لأغتسل، هل أجعل وجهي إلى القبلة أم إلى غيرها؟ فأجابه: الأفضل أن تجعل وجهك إلى ثيابك كي لا تسرق!. هكذا فلتكن الإجابة!. إن الفرصة كانت مواتية لتسفيه مثل هذه الأمور الانصرافية الموجبة للتسفيه فعلا، بخاصة أن صاحب المقطع استغرق وسعه في معرفة «نفسيات البسس»، وعلم منطقها، وعرف ظروفها الوجدانية، ففرق بين من مسها طائف من سحر، ومن أصابها اكتئاب، وقد شكت إليه ب «مواء» يذيب نياط القلب، كما فعل فرس عنترة حينما شكا إليه «بعبرة وتحمحم».. كان الأجدر بهم أن يسخروا من ذلك، لا أن يخوضوا فيه. والأمر الأكثر مدعاة للحسرة أن من خاضوا في هذه «المعابثة الفضائية» لم يتفقوا على رأي فقهي فيها، ووقفوا حيالها بين رأيين مختلفين، وكل يدعي الاستناد إلى الشرع والفقه في منطقه.. ففي الوقت الذي ذهب فيه الشيخ عبدالله المنيع حفظه الله إلى القطع بأن «الرقية الشرعية للحيوانات بالقرآن الكريم من الخرافات التي لا يجوز إطلاقها، إذ لا توجد رقية شرعية على الحيوانات»، وأن «حصول السحر على الحيوانات وتأثرها به من الألاعيب والخرافات»، يخالف «الراقي الشرعي» عدنان محجوب ذلك بقوله: «قيء القط ما في جوفه من السحر عند قيام الراقي بالقراءة أمر وارد»، وما لبث أن نسف ذلك فيما أضافه: «لا يوجد ما يسمى برقية الحيوانات كأن يأخذ الشخص قطة، أو كلبا ويقوم بالقراءة عليه». ويدخل المدير العام لهيئة الأمر بالمعروف السابق، الدكتور أحمد الغامدي، لينسف فكرة التلبس بالشيطان أو الجن من أصلها سواء كان ذلك للإنسان أو الحيوان أو أي مخلوق، إذ يقول: «لا يوجد ما يسمى بتلبس الشيطان للإنسان، إذ لا يوجد دليل على إمكان تلبس الشيطان للإنسان، ولا دليل على دخول بعض الجن في الإنس، حتى ولو كان بعض السلف قد روى ذلك، إذ لا برهان على ذلك لا من القرآن ولا من السنة». ويجد هذا الرأي القاطع والحاسم رأيا آخر يخالفه تمام المخالفة من «أستاذ السياسة الشرعية والأنظمة المقارنة والخبير في مجمع الفقه الإسلامي البروفيسور حسن سفر»، فيرى أن: «الحيوانات قد يتملكها شيء من العين والحسد». وتبعا لهذه القناعة فإنه يؤكد أن: «الرقية الشرعية في تلك الحال تجوز شرعا، كما يجوز العلاج عند الطبيب البيطري»، ويذهب إلى تعميق هذا التأكيد مضيفا: «إن السحر وردت فيه نصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية، ويصاب به الإنسان والحيوان على حد سواء، خصوصا حيوانات البيت الأليفة كالقطط، فمن باب الرفق بالحيوان يمكن علاجه بأية طريقة من الطرق، حتى ولو كانت الرقية الشرعية، قياسا على أنه في حال كان مريضا فسيتم عرضه على الطبيب البيطري». لا أدري أأعجب من «قط» تسلل إلى اليوتيوب في غفلة وأقنع الراقي بما أصابه، فقرأ عليه ليشفى، ليفتح الباب أمام كافة «البسس الممسوسة» لتقصده، ولا بأس عليه إن تخصص في ذلك وأصبح «راقي البسس الشرعي»، أم أعجب من هؤلاء الذين لم ينتبهوا لسذاجة المعابثة المطروحة عليهم، بل اختلفوا في الرأي الفقهي حولها إلى حد التناقض الكامل.. إلى حين أن تكتمل معالجة كافة «البسس» الممسوسة، وينقطع سيل الحيوانات من كل نوع، على الراقي ليخلصها من الجني الذي تلبسها، وإلى حين أن يتفق على هذه «القضية المركزية»، ستكون قضايا مثل تمدد داعش الخطير، وفشو الغلو والتطرف في أوساط شبابنا، وانتشار الموت العبثي في ربوع الوطن العربي، واختطاف الإسلام الحقيقي من قبل المتألين على الذات الإلهية، ستكون كلها «أمورا ثانوية» في قائمة أولوياتنا..!!.