النفوس الكبيرة الراقية المتميزة عن غيرها وحدها التي تستطيع أن تصفح وتعفو عن الآخرين، وتعتذر إذا لزم الأمر، أما العقول الصغيرة فهي لا تسامح عن الزلات وتتشدق في صغائر وتوافه الأمور. كم نحن بحاجة إلى التسامح والعفو والصفح واللين وبذل المعروف وكف الأذى في سلوكنا وتعاملاتنا اليومية وعلاقتنا مع من حولنا، وخصوصا الإخوة والأقارب والأصدقاء، فلهم الأولوية على غيرهم، ومن ثم بقية الناس. ومن أسماء الله سبحانه وتعالى العفو، الغفور، الرحيم، التواب، يغفر الذنوب والزلات، ويعفو ويسامح ويتفضل على عباده ويتجاوز عنهم، وكثير منا يريد أن يغفر الله له وهو لا يريد أن يغفر لأخيه، أي تناقض هذا. أما البعض من الناس فيهجر أخاه الذي هو ابن أمه وأبيه ولا يغفر ولا يصفح عنه، رغم الوعيد الشديد لهؤلاء، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر)، فلو قلت لأحد من الناس بأني كنت جالسا مع مدمن خمر لأقام الدنيا ولم يقعدها، وعندما تقول بأنك جالس مع قاطع رحم لن يحرك أحد ساكنا، على الرغم من أن قاطع الرحم ربما يكون أسوأ بكثير من مدمن الخمر ومصدق بالسحر. كيف يصر الإنسان على أن يلقى بنفسه في التهلكة؟ وكيف يتجرد من إنسانيته ويهجر أخاه أو قريبه وهو يعرف مصيره؟ إنه الإنسان عندما تنعمي بصيرته لا يميز بين ما ينفعه وما يضره! التسامح خلق الأنبياء؛ فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيش هذا الخلق بين أصحابه ومع أعدائه واقعا في الحياة، سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزِي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح». قال تعالى: (وإِذا ما غضبوا هم يغفرون). الإسلام لا يقبل الظلم لأحد مهما كان دينه أو عقيدته أو بلده، وهذه هي سماحة الإسلام مع الآخرين، بل تجاوز الأمر إلى أكبر من ذلك، فهو يأمر بالعدل والإحسان حتى مع غير المسلمين من أجناس هذه الأرض، فإذا كان هذا مع الآخرين، فكيف مع القريب، فهو أولى بكثير. إن التعامل مع الأقارب أولا والأصدقاء وجميع الناس ثانيا بالحلم والصفح والتسامح عند الإساءة هو من الأخلاق الراقية، كما أنها راحة وسرور يشعر بها المرء عندما يقابل السيئة بالحسنة، وهي أعظم بكثير من الشعور بالثأر والانتقام. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا». التسامح قوة تكشف عن مكانة وشخصية الإنسان الراقي، وهو المستفيد الأول فله الثواب من الله سبحانه وتعالى في الآخرة، وله السعادة والطمأنينة وحب الناس وتقديرهم له، بالإضافة إلى قصور في الجنة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «رأيت قصورا مشرفة على الجنة، فقلت: لمن هذه يا جبريل؟ قال: للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس». إن التسامح بين الإخوان والأقارب وبين الناس كافة يجب أن يرتقي إلى أعلى من ذلك، فالمجتمع يجب أن يعيش أبناؤه في حب وتسامح وتراحم، وأن يسود حياتهم اللين والسهولة واليسر، يقول تعالى: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله). إن عدم التسامح والشدة والحقد ودوافع الانتقام والكراهية تنذر بالهلاك؛ فتقطع الأرحام، وتكثر الصراعات، وتنزع الرحمة، ويحل الشقاء، ويذهب الخير بين الناس، وتقوض مجتمعات بسبب ذلك، وتتلاشى أمم، وتنهار حضارات، وإن من طبيعة النفس البشرية بغض الإنسان غليظ الطباع، قاسي القلب، سريع الغضب. إن القطيعة بين الإخوة والأقارب والأصدقاء وغيرهم من الناس لأي سبب كان، مادي أو سوء فهم أو موقف سخيف يخجل الإنسان عن ذكره، هو من الجهل مهما كان مستوى الشخص العلمي أو مكانته الاجتماعية، خصوصا والجميع يعرف مقدما ما هو الجزاء الذي سوف يناله. فلننشر التسامح فيما بيننا، ولنجعل علاقاتنا قائمة على التسامح والسهولة واليسر في اختلافنا وحوارنا وذهابنا وإيابنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان سهلا لينا هينا حرمه الله على النار». التسامح منهج أمة، ودستور حياة، وأخلاق وقيم إنسانية؛ أمر بها الإسلام، ودعا إليها القرآن، وبها سعادة الإنسان، ورضا الرحمن. من يريد الجنة وينشد السعادة والطمأنينة ويبتغي المال والأولاد والتوفيق في كل شؤون حياته، فليبادر بالعفو والصفح عن إخوانه وأقاربه وجميع الناس، فهذا هو الطريق الموصل لذلك.