في عز شمس الظهيرة، تجمهر نفر من الجماهير الغاضبة أمام القصر، في يوم شديد الحرارة، كانت شمس ذاك اليوم تدلق شعاعا ذهبيا لتشوي أعناقهم المشرئبة الغاضبة من حيف جائر، تشتم روائح شوائهم وهي تتصاعد مع أبخرة عوادم السيارات المصطفة جانب الطريق المطوق بالحواجز الأسمنتية والأسلاك الشائكة. ظل الكل يردد ويطلق الهتاف: إذا الخوف أغلق أفواه بشر** سيكشف جوع دثار ضجر بينما تعلو الهتافات والصيحات للجماهير الهادرة كان على رأس الجموع جمال وزيد وعلي، يمسك جمال بمكبر الصوت ويلهب حماس الجموع اليائسة من الأوضاع المتردية السيئة. طالما أكلت هذه الجماهير من لحم بطونها واصطبرت على مرارة حكم هذا الوضع الذي استمر حينا من الزمان يقارب الخمسة والعشرين عاما، وكان سياسته تعتمد على تفكيك مفاصل الدولة، وتجيش فئة من الشعب حتى تنضم تحت جناحه، وتوسيع تعداد المؤيدين لفكره المتبع في تسيير الدولة، وقد تحركت هذه الجموع من أمام المسجد العتيق، حتى وصل موكبهم إلى باحة القصر الرئاسي المحصن جيدا خوفا من أي اقتحام. بينما الجمع يقف أمام القصر أطلق فريق من قوات الأمن قنابل للغاز المسيل للدموع بصورة مكثفة ممن كانوا يحيطون القصر بالحواجز الأمنية، وتعتبر هذه الفرقة دربت خصيصا لاصطياد رؤوس الجموع التي تقود المسيرات، شقوا صفوف الجموع بعناء وضربوا من ضربوا وهم يطلقون الغاز المسيل للدموع في الهواء، انشق صف المقدمة وانفرط عقده كحبات المسبحة كل حبة تناثرت في اتجاه مختلف، وكان جمال مرصودا منذ مدة طويلة وتم القبض على جمال، وفر كل من زيد وعلي بعد أن نجحت الفرقة في تفريق الجمع. ثم ألقي القبض على جمال وجرى اقتياده عنوة معصوب العينين إلى مكان تحت الأرض مظلم مخيف لا يعلم بموقعه أحد. أدخلوه معصوب العينين داخل غرفة في القبو المخيف لا تكاد تسمع فيها سوى أصوات الصراخ من واقع الضرب والتعذيب، وبعد مرور عدة ساعات من الرعب سمع جمال صوت الباب يفتح وصوت يتكلم: افتحوا عينيه. وبعد مرور ساعات من ترقب جمال وخوفه، أتى المحقق صقر 101 وتحدث مع الحرس وأمرهم بالإتيان بجمال، وجلس على منضدة متهالكة وعلى مقربة من رأسه مصباح معلق ينبعث منه ضوء خافت، وبعد عناء من شدة الظلام تمكن جمال من رؤية وجه المحقق صقر101 ويبدو عليه القوة والحزم، وهو ينفث دخان سيجارته في وجه جمال يكاد يختنق، ويجلس بجوار المحقق من يدون الأقوال، صاح بعنف: أجلس هنا. وبدأ التحقيق. المحقق صقر101: ما اسمك؟ جمال: أول أحرفه؛ جهل موطني استغل لأجلكم. نظر المحقق له وضربه بعنف على خده حتى سقط ثم رفعوه ثانية وأجلسوه. المحقق صقر101: كم يبلغ عمرك؟ جمال: يبلغ ما بلغ مني فأوله بكاء وأوسطه حرمان وآخره هنا. نظر له المحقق بين الغرابة والدهشة ولا يدري ماذا يقول! أجب علي بطريقة أفهمها وإلا... المحقق صقر101: أين تقطن؟ جمال: أشار بيده إلى الخارج في كبد هذه الناحية القاصة من نشاز الفسق. كاتب الأقوال: لا أفهم شيئا يا سيدي.. هل أواصل كتابة ما يقوله. المحقق صقر101: صاح وضرب المنضدة بعنف: وماذا تريد أن تكتب أكتب ما يقوله وحسب. انتفض المحقق وقام بضرب جمال على خده، تأوه جمال بشدة من الضربة القوية، وقبل أن يفيق من إثرها، طرح المحقق سؤالا آخر. المحقق صقر101: لمَ تقوم بنشر هذه الأفكار الهدامة التي تزعزع أمن الوطن؟ جمال: صمت قليلا لأنه لا يستطيع النطق من كثر الضرب، ثم قال: لأني نظرت لمرآة عقلي مهانا. المحقق صقر101: لِم تثيرون الفوضى في البلاد. جمال: هي فوضي خلاقه يخلقها من يخلق الامتهان ليهين الحر في وطنه. المحقق صقر101: لِم ترددون هذه الشعارات المناهضة لأيدلوجية الدولة الديمقراطية «حرية، عدالة، اجتماعية». جمال: الحر من يستوطن العدل في ميزانه ويكف الشر عن الجموع. نظر صقر101 لكاتب الأقوال وجده لم يدون الأقوال الأخيرة صاح في وجهه: هل أنت غبي لماذا لم تدون ما يقوله. المحقق صقر101 من أي قسم تخرجت: جمال: درست لأنفع الناس بإعلام علمت منه أن سيدكم وصولي لعوب. كاتب الأقوال: لا أفهم شيئا مما يقوله يا سيدي. نظر صقر101 لجمال وضربه بيده ضربة قوية أسقطه فاقد الوعي، وقال لمعاونيه: عندما يفيق من وعيه ردوه للسجن حتى أنظر في أمره في وقت لاحق. قام صقر101 برفع الأمر إلى قائده بعد أن فشل رغم قوته وصرامته في التحقيق مع المعتقلين، وقال له: لا أستطيع أن أفهم منه شيئا هو لئيم مخادع، وأمر قائدهم المحقق سقراط بإكمال التحقيق مع جمال. يعتبر المحقق سقراط اختصاصي التحقيق مع أمثال جمال وهو أشد حنكة وذكاء من المحقق صقر 101. وعندما أتي سقراط ودخل المكان المظلم قال: أين هو، قالوا، إنه محبوس هناك. سقراط: فكوا سجنه لنرى ماذا يقول اليوم. كانت حالة جمال سيئة نظرا للضرب المبرح والتعذيب الشديد، جلس جمال على المنضدة المتهالكة أمام المحقق الجديد. سقراط وهو ينظر إلى جمال وقال: ما اسمك؟ جمال: يتكون من جمع أربعة حروف كونها قدري. أولها: جمع أفراد تنادي بمبدأ المساواة والعدل. ثانيها: من وحي الإله طمأنية تغمرني لأنني على حق. ثالثها: ألف صوت ينادي للحق دون خوف. رابعها: لام مقرونة بألف؛ لا نتراجع ولا نحيد عن طرائق الحق، ولا نرضى بغير العدل، ولا نتوجس من بطش سلطان جائر. سقراط: كم يبلغ عمرك؟ جمال: إني أنظر إلى مرآتي كل يوم، ولا أرى غير ظلام حالك يتبدل حالي كل يوم تموت شمعة من عمري كل يوم سنة؛ بتثبت جائرا لحكمه. سقراط: ماذا تقصد؟ جمال: اسألوا المرآة عني. سقراط: أي مرآة؟ جمال: مرآة لأيدلوجية تعكس ألم ذاتي. سقراط: أين تقطن؟ جمال: في عقل كل حر لا يرضى بجور وقهر. سقراط: لمَ تتبني هذه الأفكار الهدامة؟ جمال: لا أستطيع إسكات صوتي عندما يخرج من فمي والنطق بالحق ينتسب إلى كل حر. سقراط: ضرب المنضدة بكفه الأيمن بشدة وصاح.. وضرب جمال على وجهه، زجوا بهذا الفتى في السجن، لم أستطع أخذ حق منه ولا باطل. المحقق سقراط ظن أنه يستطيع أخذ أقوال من جمال تجعله مدانا بتهم تجعل إقصاءه من المشهد لا يحتاج إلى عناء، ولكنه وقع تحت أسر عقله وتجرع مرارة غبائه كماء أجاج مالح.. من حيرتهم رفعوا الأمر إلى قائدهم مرة أخرى؛ لم نأخذ من الفتي حقا ولا باطلا ماذا نحن فاعلون. القائد: دعوه بالسجن عسى بعد مدة أن يرجع إلى رشده، وبعد قضاء مدة تقدر بثلاثة أشهر في السجن، أطلقوا سراحه وعاد إلى منزله الخالي، فقد رحل والداه عن الدنيا منذ مدة ولم يكن لديه إخوان وكل أقربائه يتهربون خوفا من توجهه الفكري المريب المناهض ضد سياسة الدولة. وبعد أيام نظر جمال إلى المرآة، ولم ير سوى جائع نهم تواق للمطالبة بحقه المكفول في أي سنن وشرائع، وذهب بخطى وئيدة إلى مشارف الطرقات ينادي ويردد: أن يا قوم أقبلوا ولا تخافوا ليخرج كل واحد منا ما في جعبته عسى أن نتفيأ معنى ظلال الحرية الوارفة وأنتم تقفون لسنوات تسألون مثل تلاميذ عن المباح في القول، عندما بح صوته ولم يسمعه أحد في هذه المرة وحتى أصدقاؤه تخلوا عنه خوفا من البطش، وقف أمام القصر وحده، يصيح ويصيح ويرد.. ويرد: إذا الخوف أغلق أفواه بشر.. سيكشف جوع دثار ضجر.. وقف يوما.. يومين.. ثلاثة.. وعند غروب شمس اليوم الرابع.. لم يعثر له على أثر قط.. وبعد ستة أشهر شوهد.. ينفخ في بوق ويرقص على أنغامه طربا فرحا.. بهي الطلة.. ذا حلة زاهية.. يردد بصوت رخيم هادئ: مرحبا بكم في برنامجكم التلفزيوني «مرور سنوات من العدل الناجز»..