«أنا أتصدع .. أهوي ركاما» هكذا يجترح الشاعر فاضل الجابر في ديوانه الشعري الأخير «وحيداً بامتداد خطاك» لغته في سأم كونيِّ، وإصرار على المكابدة حيث سبق جملته بضمير المتكلم (أنا) كما استتر ضمير آخر في جملته الفعلية التي تشي أكثر مما تقول، ومن الصورة إلى الخطاب أنهى نصه اللاهث عبر مقاطع تشكل في مضمونها نصاً واحداً وفي شكلانيتها ومفرداتها المكتنزة أكثر من نصٍ حيث يقول «رجوعك لي ليس أمانٍ تعزُّ على الكون، قد تستحيل» ثمة مصير خانق وعزلة مفبركة تتشكل من خلالها رؤية الشاعر إلى ماوراء النص وإلى الماورائيات عموماً سواء كانت لغته حمالة أوجه أو غاياته التنفيس واكتناه الحقيقة الغامضة في لجة الذات، فما في داخلك قد لا تراه وما تنتظره أن يخرج قد يكون مؤبداً، و ما لا تشك به قد يكون هو الوهم الذي يعرقلك، وهكذا تنبش القصيدة روح الشاعر وتضعه على طاولة حائرة بأوراق بيضاء تتحول إلى كشفٍ واضحٍ لا يقبل المراوغة كما يتعدى سبل الحقيقة ذاتها التي تمر عبر دروب متعرجة في مدارات الزمن، ليبقى الشاعر وحده –نعم وحده- في البحث عن احتمالاته وآفاقه التي تفضي به إليه لا إلى غيره وإن كان شغله بغيره لا يبعد عن ذاته في أقصى درجات التعبير عن مكنونات الآخر التي تُضيء الأنا/الذات المتشظية بمدلهمات الحيرة كما يقول آرثر شوبنهاور «حياة الوحدة مصير كل الأرواح العظيمة» وفي ذات النطاق يقول فرانتس كافكا «أنت حر، وذلك هو سبب ضياعك» لذلك يبدو التيه اللغوي في قصائد الديوان لدرجة الانفلات والتمادي في الطيش. يقول الجابر في نص (الأباطيل): «لغتي حمائم لا يعود بها الهديل إلى فوات الوقت أصخب العبور إلى المنافي» ويقول في نص (ما أسرجه الدمع) : «ضاع صوتي وتلاشت صورتي خلف ذهولي» وفي نص (راوي الشك): أخاطر يجتاحني الآن ويبقى ما جمعناه حصادا للبدد» في نصوصه عناوين كثيرة وفي عناوينه نصوص أكثر تحدو صمته إلى الذهول أكثر مما تدفعه إلى الكلام. وهذا الإفصاحُ الأبدي عن العزلة و التألم من أجل الاستغراق في المعنى أو المازوشية وجلد الذات عبر لغة باذخة مستهامة على الأرجح. كلما أبصر الشاعر في ذاته وأوغل بجنونٍ محضٍ في علاقته بالأشياء والأهم أن يدرك ما حوله من مجاهيل سيكون أقرب إلى نصه و هو ما يحرضنا عليه الشاعر فاضل الجابر بل ما يحرض ذاته على التوجس أكثر حيال هذه الفرضيات المخملية والتي أدمنَ من خلالها التصوراتِ الجامحة حيث لا يختلف بؤسه الرمزي عن الميتافيزيقيا (ماوراء الطبيعة) التي تقوم عليها المعرفة الإنسانية القديمة والبدائية إلى حدّ ما كما تعتبر منهجا أساسيا للانطولوجية (مفهوم الوجود) وكوزمولوجية (مفهوم الكون) وهي قد تكون شرفة مستقبلية للنص الذي ينأى ليقترب ويدنو ليبتعد أكثر. إن إغراءات النص لدى الجابر في ديوانه (وحيداً في امتداد خطاك) هي امتداد لغوي لديوانه الأول (متسع للرحيل) ولم تختلف كثيراً من وجه نظري شكلا ومضمونا ولكن المفاهيم كأدوات نصية تجسد روح الشاعر بتحررها والتزامها على الرغم أنه لا يوجد هنالك التزام لدى الشاعر في وجدانه الذي يجب أن يكون دماغاً لقصائده كلها، وهذا الدماغ أو مفتاح النص أو ما نسميه «بيت القصيد» هو شفرة مبهمة ولكنها ذات معالم وليس كل هيكلة واضح يعني أنه مكشوف كما لا يعني غموض البنية تعتيما في دلالته، وهذا شيء من رهانات الجابر التي تسقي قرّاءه نهراً متدفقاً لا يتطهر من خلاله العابرون بمقدار مايرفلون بطفولة الماء وعبث مراودة الوجوه العالقة في دوائر ستكون مشردة أكثر مماهي مشردة بحصاةِ النقد التي لا تريد أن ترى صورة واحدة للشاعر بل الصور المتعدد له تجعلك أقرب وتكون العين هكذا محدبة تهبنا اتساعاً ورؤية أكبر، وما أحوج فاضل الجابر إليها مع سوداويته الجميلة وبؤسه المفبرك الذي لولاه لم نقرأ نصوصاً خادرة في كأس المنى، فالعذابات الشهية تنصهر بليالٍ مُلهمة وتتعرى على امتداد الخطى. سردية النصوص ومزاجيتها الفريدة تحتمل القارئ كثيراً، بل تخطو معه في دهاليز المعنى وتمضى إلى آخر المطافات المعتمة التي لا يرى بعدها غير نفسه وهذا لا يعكس مدى حيرة القارئ بقدر ماهو شعور بالنص لا يمكن إخفاؤه، وهذه نقطة تحسب للشاعر الذي يرغب في تعرية قارئه وحمله في داخل المضامين لا ليكتشف نفسه أيضاً ولكن ليُجرّبها، ثمة تجريب للذات من ناحية التلبس والقولبة، فإن تشعر بالنص وتتخذه عباءة لروحك هو غاية مايتأمله الشاعر.