يحكى أن أحد لصوص المنازل المتمرسين اعتاد مراقبة منازل ضحاياه قبل أن يقوم بالسطو عليها، وذات مرة اقتحم إحدى الفلل التي تتكون من دورين نهارا في غياب أصحابها، وبدأ في البحث عما خف وزنه وغلا ثمنه، ولسوء حظه فوجئ بالأسرة تعود للمنزل على غير توقع فأسرع بالاختباء في الدور الأرضي، صعد الأب والابن إلى الدور العلوي بينما بقيت الأم بالأسفل تعد الطعام، قرر اللص التسلل خفية ومغادرة المنزل فورا، سار بخفة وفتح باب المنزل وهم بالمغادرة، ولكن لحظه العاثر لمحته الأم فبادرت بالصراخ «امسك حرامي»، ارتبك اللص وازداد ارتباكه أكثر بسماعه صوت النافذة الموجودة بالطابق العلوي وهي تفتح ويطل منها الأب صارخا هو الآخر «امسك حرامي»، تجمد اللص من الخوف، وهنا توقف أحد المارة بالصدفة أمام المنزل مندهشا ومحاولا استيعاب الموقف، فما كان من اللص إلا أن أسرع نحوه وأمسكه بشدة وهتف بأعلى صوته «امسك حرامي، حرامي»، وخلال لحظات قليلة تجمع عدد كبير من المارة ممن اعتقدوا أن الرجل البريء هو اللص وانقضوا عليه شتما وضربا، شاركهم اللص الحقيقي الضرب قبل أن ينسل بهدوء مسرعا ليختفي تماما عن الأنظار!. هذه القصة هي نموذج بسيط ومكرر لمفهوم كبش الفداء، وهو يسلط الضوء على القدرة الفائقة للبعض للتخلص من أي مأزق ببراعة عبر قلب الطاولة على الأبرياء وإسقاط عيوبهم عليهم، واللافت في القصة السابقة ليس في قدرة اللص على التملص من الموقف (فيكفي أنه لص لا يحمل أي أخلاقيات) لكن المؤلم هو الاندفاع العاطفي دون تريث من أناس يعشقون التجمهر ويستلذون بجلد الموتى، فهذه الفئة من الناس ما أن تذكر أمامهم قصة معيبة لأحد الأشخاص إلا ونجدهم قد ساهموا في تضخيمها وإشاعتها عبر معارفهم دونما تفكر أو ترو. كثيرا ما نسمع عن اتهامات لبعض المسؤولين في قضايا سرقة أو اختلاس من دون بينة، والطريف في الأمر أن المبلغ المختلس يختلف باختلاف رواة القصة أنفسهم، فكل يزيد في المبلغ وكأنه طرف في القضية نفسها أو أنه شاهد عيان عليها. إن أي شائعة تبدأ من مصدر واحد فقط ثم تنتشر كالنار في الهشيم، هناك الكثير من ضعاف النفوس ممن يسعون لإبعاد الشبهات عنهم من خلال تجريم الآخرين، وعادة ما يتم تجريم الأشخاص الذين هم في موضع المسؤولية لمجرد أنهم يشغلون موقعا حساسا، وعادة ما يكون الدافع وراء إطلاق هذه الشائعات هو ضغينة خفية مطمورة في قلب من أطلقها، لمنصب حرم منه أو عطية لم يستطع أن ينالها، أو صلاحيات يتمتع بها هذا المسؤول يهفو قلبه للحصول عليها، فيبدأ في خلق الاتهامات بما يقنع ضعاف العقول والنفوس معا، فيقومون هم بدورهم أيضا بتهويلها مما يمنحها في نهاية الأمر بعدا واقعيا ويسبغ عليها هالة مصطنعة. للأسف لا توجد قاعدة عامة ترضي الجميع، فلو أخلص المسؤول وتفانى في عمله أثاروا حوله الشبهات عن سبب تفانيه وإخلاصه في عمله (إلا أن يكون ذلك بسبب مصلحة شخصية)، ولو تقاعس عن أداء عمله نعتوه بالمستهتر غير الأمين، فالمسؤول للأسف موضع شبهة في جميع الحالات. وربما يصدر الاتهام من أشخاص هم أنفسهم غارقون في الفساد من رؤوسهم حتى أخمص قدميهم، أو يصدر ممن يهوون الفساد ويحسدون الفاسدين عليه في قرارة أنفسم، فهم يتمنونه لأنفسهم دون أن يصرحوا بذلك، لذلك قد تجد البعض ممن ينتقدون غيرهم بالفساد يصبحون أكثر فسادا ممن سبقهم، عندما تؤول لهم المسؤولية. يقول المثل الشعبي «ما فيك يظهر من فيك» وتقول الحكمة العربية «كل إناء ينضح بما فيه»، ولعل ثقافة تجريم أي مسؤول بلا أي بينة لم تعد تتناسب كثيرا مع سمات المجتمع المتطور الذي يتمركز حول دولة القانون ويعتمد طرق الشفافية والمساءلة كإحدى أهم وسائل التواصل بين مسؤوليه ومواطنيه. فياليتنا نتوخى الحرص في أحكامنا ونسعى للتمتع بحس نقدي لنتمكن من التمييز بين من ينتقد بهدف الإصلاح والتطوير، وبين من ينتقد ليخفي سوءاته ويخبئ عثراته، فلا نتجمهر ونصرخ ونضرب بلا تفكير لمجرد أننا سمعنا شخصا يصرخ بأعلى صوته «امسك حرامي!».