رأى المفكر الدكتور عبدالله بن محمد الغذامي أن المقولة الجوهرية لليبرالية تحصر مفهوم الحرية في حرية السوق، وتحصر مفهوم الإنسان في كونه كائنا اقتصاديا، لافتا إلى أن حركات المحافظين الجدد لجأت في أعقاب انتصارها على «النظرية الاشتراكية» وسقوط المعسكر الاشتراكي، إلى استغلال الذاكرة الفعالة للجمهور في توظيف مصطلح «الليبرالية الجديدة»؛ من أجل تجميل «النظرية الليبرالية»، وتسهيل حركتها، ومن ثم تقبلها بغية إحكام قبضتهم على العالم وابتلاع ثرواته. وأشار أستاذ النقد والنظرية في كلية الآداب قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود إلى أن الليبرالية العربية مشوشة وساذجة وعاجزة، وهي صفات تكشف عن نفسها؛ لأنك لن تجد شيئا تستطيع أن تصفه بأنه ليبرالية عربية، معتبرا أنه من الصعب علميا وبحثيا التحدث عن شيء يسمى بالليبرالية السعودية؛ لأنها غير موجودة إلا على مستوى الادعاء، وهو ادعاء يصدر من الخصوم. وأوضح أن الجميع وقع في خطأ تصور معنى «الوسطية» ظنا أن المعنى اللغوي البسيط هو المقصود، وأن الحال الثقافية والدينية ظلت واقعة تحت هذا الظن عن الوسطية، والذي يعتبرها حالة توسط بين طرفين. وأفاد بأن الاحتقان الأخلاقي والاقتصادي والبيئي الذي تعانيه البشرية اليوم جراء آثار العولمة لن يتسنى له التحول إلى نسق ثقافي؛ لأنه ردة فعل واستجابة لظروف، ويتغير مع تغير الظرف ودرجته.. «عكاظ» ناقشت الغذامي في عدد من أطروحات أحدث كتبه «الليبرالية الجديدة» في ثنايا الحوار التالي: أعادت الليبرالية طرح نفسها بمسمى «الليبرالية الجديدة»، فما نواحي الجدة التي أتت بها؟ وما توقعاتك لمستقبلها في ظل اختلالات صيغتها الجديدة في حث الفرد على الاستقلال التام عن المجتمع؟ هناك دوما هوس بشري ثقافي للتسلح بالمصطلح لتسويق المطامح، وينبع هذا من شعور بأن لبعض المصطلحات ذاكرة فعالة لدى الجمهور، وهذا يغري بتوظيفها لتجميل النظرية وتسهيل حركتها ومن ثم تقبلها، ولذا لجأت خيارات حركات المحافظين الجدد ومع نشوة انتصارهم على النظرية الاشتراكية وسقوط المعسكر الاشتراكي، لجأت إلى مصطلح الليبرالية، ولكن لا بد من تزيينه بمعنى حديث يعطي حسا بأن الثقافة وصلت إلى مرحلة أنضج من سابقاتها، هذا حس تستطيع أن تقول إنه ذو بعد سيكولوجي من سيكولوجية الثقافة وسيكولوجية المستثمر المادي والمعنوي للمقولة، وقد فعل ذلك مفعوله مع مقولة «الليبرالية الجديدة»، وأنت إذا نظرت في مستندهم الفلسفي فستجد أن ركنهم المفاهيمي يصدر عن جون ستيورات مل، ولهذا وصفت الحالة بكلمتي «الحضانة النسقية»؛ لأن مل طرح كل ما تحتاجه نظرية السوق الحرة من سند فلسفي وإغراء ثقافي، حتى لتبدو كل موبقات البشر وكأنما هي محفزات إيجابية؛ مثل الجشع والطمع والأنانية، وهي صفات يقول الليبراليون الجدد إنها هي ما يحرك الذات البشرية للاستثمار المالي في السوق ومن ثم يتحرك السوق وينتعش الاقتصاد، ويفوز فيه الأذكياء، ولا عبرة بمن عجز وخسر؛ لأن النظرية تقول عن الإنسان بوصفه كائنا اقتصاديا كما هي المقولة الأولى للنظرية، ومن ثم فمن عجز عن تمثل المعنى الاقتصادي في نفسه وفي تطلعاته، فهو عبء على نفسه وعلى المجتمع، وليس هناك غير أولئك الجشعين الطماعين والأنانيين الذين يجب تحفيز رغباتهم وتشجيعهم، بوصفها مزايا يتحرك بها السوق وتكون سوقا حرة بعيدة عن تدخل الدولة وقيود المثالية الأخلاقية. الحضانة النسقية تلك هي المقولة الجوهرية، وهي مقولة تحصر مفهوم الحرية بحرية السوق، وتحصر مفهوم الإنسان بكونه كائنا اقتصاديا، وتوظف الضروري من الصفات لتحقيق ذلك، ومعها يجري استجلاب فلاسفة الليبرالية المبكرين والاستنجاد بمقولاتهم، وتتم الحبكة هنا تحت إغراء المصطلح الذي يسهل لهم تسويق النظرية بلباس لا يصد النفوس عنها، هي إذن الحضانة النسقية تفرز الجنين الأسطوري وتفتح له الجرة دون كسرها، كما ترى ذلك واقعيا، من حيث تعزيز معاني الفردانية وتحسيس الناس بأن المال يجري اكتسابه ليجري صرفه مباشرة وتحريكه بنفس حركة السوق، وأن الأنانية والطمع مزايا؛ لأنها هي المحرك الأهم لهذا، ومن ثم يقوم السوق وينتعش متحررا من كل قيد رسمي وأخلاقي ومن أي نظرية للجماعة والمجتمع، وتكون اليد الخفية للسوق هي التي تدير السوق، أي أن السوق تكون حرة بقدر ما تدير نفسها بنفسها، وهذا معنى اليد الخفية، كما طرحها آدم سميث من البداية. التسميات العمومية لماذا اعتبرت التجربة العربية مع مصطلح الليبرالية من أكثر الأمثلة سلبية على ما حدث من تشوهات عميقة لمسار المصطلح؟ الليبرالية العربية مشوشة وساذجة وعاجزة، وهذه صفات أستعيرها من عبدالله العروي، أو لعلها صفات تكشف عن نفسها؛ لأنك لن تجد شيئا تستطيع أن تصفه بأنه ليبرالية عربية، وما جرى منذ القرن التاسع عشر أن الفكر العربي السياسي والمجتمعي تحديدا مر بمراحل من التسميات العمومية حتى مع محاولات في الستينات القريبة بتسمية شيء بالاشتراكية العربية، ولكن الاثنتين معا: الليبرالية والاشتراكية لم تنتجا نسخة عربية، بل لم تنتجا نظرية أو نظريات بحثية يمكن التعويل عليها، ولم يحدث أن أخذ مفهوم الحرية حقه من الدرس الفلسفي سوى أنه شعار سياسي لا أكثر، وفي مقابله ظل بعض الحنين لمعنى للحرية يتوهمها قيمة فردية وهي ليست كذلك، ولقد سبرت في كتابي صيغ الحرية ما بين فردية ومدنية واجتماعية وشرط تمثل المعنى وقيامه، وهي مسألة شائكة بمثل ما إن السؤال نفسه شائك، ولن تكون الحرية إلا عبر معناها الجمعي بين فئات تشترك في المعاش البشري، ما يجعلها قيمة تشاركية أو تفاوضية كما هو المصطلح الذي أفضل استخدامه. ما مسوغاتك في القول بأن الحالة السعودية زادت النموذج الليبرالي العربي تشتتا وفوضوية؟ من الصعب علميا وبحثيا أن نتكلم عن شيء نسميه بالليبرالية السعودية؛ لأنها ببساطة شديدة غير موجودة إلا على مستوى الادعاء، وهو ادعاء يصدر من الخصوم الذين ظلوا يطلقون التسمية ويضخمون في دعواهم، ناسبين كل عمل وكل قرار وأي مقال لا يرونه مما يتسق مع ما يتمنونه للمجتمع، ينسبونه لفئة شبه تكتلية وشبه تخطيطية، وهي التي تدير الأمور وتقف وراء القرارات وتتربص بغيرها، وهذه هي نغمة الخطاب كما تلاحظ، ما أدى إلى تصور عام عن ليبراليين لهم نفوذ ولهم حظوة ولهم قوة سحرية تفسر كل ما لا يظهر للناس معناه، وقد كان هذا يستخدم في توظيف مصطلح الحداثة، ولو نظرت في شريط الحداثة وكتاب الحداثة في ميزان الإسلام، فسترى درجة التماثل بين ما قيل حينها وما يقال الآن مع تغيير في الكلمة التهمة. وجرى أن ظهر أفراد تشوقوا لرنين الكلمة واختلبهم بريقها وصاروا يسمون أنفسهم ليبراليين، وليس لأي منهم منجز معرفي يركن إليه الباحث ويقوم عليه الاستنتاج البحثي سوى كلمات عابرة أو مقالات ليس فيها ما يسند التصور أو يعين على قراءة نقدية للخطاب، ولذا صارت الليبرالية السعودية مجرد دعوى من خصم وهو الأقوى هنا في تسويق المصطلح، أو دعوى من فرد لا يسندها منجز يستطيع صناعة المصطلح وتأسيسه، وهنا ستنتهي إلى ما انتهى إليه عبدالرحمن الوابلي في حلقته الشهيرة من طاش، وخلاصته أنك أمام لحظة تمثيل لا أكثر، ولن تجد أدق من تلك الحلقة، أقصد من الناحية البحثية وقراءة الخطاب، وهذه هي قمة الهرم أو هي الهرم كله. الأضداد المتنافرة أشرت إلى وجود خلل ثقافي عميق في مفهوم الإسلاميين للوسطية، فأين يكمن الخلل؟ وماذا ترتب عليه في الواقع؟ الحقيقة أننا كلنا قد وقعنا في خطأ التصور لمعنى الوسطية؛ ظنا منا أن المعنى اللغوي البسيط هو المقصود، حيث يتبادر للذهن أن الوسطية هو من التوسط بين طرفين، وجنحت الأقاويل بادعاء هذه الصفة حتى صار كل فريق يصف نفسه بها؛ ظنا منه أنه يتمثل معنى الآية الكريمة (وجعلناكم أمة وسطا)، حتى صرت تجد الأضداد المتنافرة تصف كل منها نفسها بالوسطية وتنفي ذلك عن خصمها، بل إنك لا تجد أحدا يقول عن نفسه إنه غير وسطي، ولو قالها سيكون بمثابة من يقول إنه غير مسلم، وليس من أحد يرضى لنفسه بوصف المتطرف، ولكن سيبادر إلى وصف غيره بالتطرف أو بالتفريط ويختص هو بصفة الوسطي, وكذا سترى الكتاب وأصحاب الرأي يرددون القول بالوسطية، مشددين باللوم على التشدد، ونافين عن أنفسهم التفريط، وظلت الحال الثقافية والدينية تحت هذا الظن عن الوسطية على أنها حالة توسط بين طرفين، وبالرجوع إلى القرآن الكريم وسياقات الآية مع النظر في كلام المفسرين الأوائل سيتبين لنا أن الوسط الوارد في الآية الكريمة يشير إلى معنى (العدل) وليس التوسط بين شيئين، ونحن إن حررنا المعنى بهذا المفهوم، فسندرك المعاني العميقة للنظرية الاجتماعية في الإسلام بوصفها قيمة مبنية على العدل، وبها تقوم عناصر المعاش البشري سلوكيا واجتماعيا وسياسيا وفي كل التبادلات، ولقد سعيت لكشف هذه الحقيقة في كتابي في الفصل الثالث، ورجعت فيه إلى مصادر التفسير وإلى سياقات الآيات القرآنية، وهنا أقول إن المؤلفات المنتشرة عن الوسطية حتى لكبار الفقهاء المحدثين راحت تتكلم في سياحة ثقافية تقوم على إطلاق تعميمات تضيع المعنى؛ لأنها ظلت تركز على شرح نفسها تحت معنى ما بين الطرفين، وانشغلت بتحديد الطرفين من أجل نفيهما ومن ثم وضع نفسها بين القوسين وغفلت عن نظرية العدالة وكونها هي لب المعنى وهي الصفة الجوهرية لمن أراد أن يؤسس للوسطية كقيمة بذاتها وليست كموضع بين خطأين، أو كما قال سقراط بأن الفضيلة وسط بين رذيلتين، فكأنك هنا تحرص على كشف الرذيلتين أولا لكي تضع ما بينهما على أنه فضيلة، وهنا تقع في مظنة المعنى الظرفي وليس الجوهري، ولعلي شرحت نفسي أكثر في صلب الكتاب واستنتاجاته. خلصت إلى أن العولمة أوصلت البشرية إلى حال من الاحتقان على صعيد البيئة والاقتصاد والأخلاق، فما مدلولات تحول الاحتقان إلى نسق ثقافي وبوصلة للتحرك الكوني كما ذكرت، وما النتائج التي تلوح في الأفق بناء على ذلك؟ لن يتسنى أن يتحول الاحتقان إلى نسق ثقافي؛ لأنه أولا ردة فعل واستجابة لظروف ويتغير مع تغير الظرف ودرجته، ثم إن الاحتقان لو صار نسقا فمعناه أنه يتمأسس ويصبح كتلة واضحة المكونات وله صيغة قابلة للكشف، ومن ثم يسهل التعامل معها، أو في الأقل العيش معها ولو على مضض أو الاختلاف مع منطقها، كحال أي قيمة نسقية ربما تختبئ وتتستر، ولكنها تظل قابلة للعقلنة والقراءة المنهجية. أما الاحتقان فإنه حالة غير سوية في الثقافة وفي الأفراد، وليس له عناوين وليس له سيرة ثابتة، إنه مثل تسونامي والزلازل، تعلم عنها بعد حدوثها ولا يمكنك استباقها أو تحديد سيرتها ومسارها، ولكنها ناتج لتوتر عنيف داخل الكوكب ويفرغ توتره بهذه التكسرات، وثقافيا كلما زادت حالات عدم الرضا واستدامت دون حلول فإنها تلجأ لوضع من الخزن والاختزان حتى يصل الخزن إلى درجة لا يعود قادرا على استيعاب المزيد فينفجر، وليس من حل سوى حل تجنب الحالة ومعالجة الغيظ مع بوادره الأولى كي لا يتصاعد، وهذا ما يمكن قراءته من واقع الحدث. غدا .. سأنسف سنواتي العشر الأخيرة لو تحدثت عن التواصل الثقافي