لم يعد ثمة شك بأن الربيع لا يزال حلما رومانسيا، وأن ولادته ستتأخر وتتعسر كثيرا؛ لأن الذين يتولون الإشراف عليها لا يؤدون مهمتهم من منطلق وطني، وإنما لإثيات حضورهم لوحدهم والانتشاء بهذا الحضور مهما كان الثمن. ويقال إن الأخطاء في العمل السياسي قد تكون مقبولة عندما تكون مستندة إلى مرجعية مدنية، لكنها تكون سيئة جدا عندما تستند إلى مرجعية دينية لأنها تسيء مرتين للدين أولا ثم للمتضررين من تلك الأخطاء. يوم الأربعاء دخلت إيقونة الثورات العربية، أو ثورة الياسمين (يا لها من رومانسية) منعطفا خطيرا ومنزلقا مخيفا ببدء التصفيات والاغتيالات الجسدية؛ كتصعيد مباشر للتصفيات والاغتيالات المعنوية التي يبدو أنها لم تعد تشفي غليل الخصوم، أو بالأصح القادرين على تنفيذها. كان مؤكدا أن المعارض التونسي شكري بلعيد مهدد بخطر الموت، فقد تكررت محاولات التحرش به والتهديد له بوسائل عديدة، بل إن أحد المتطرفين المحسوبين على التيار الإسلامي التونسي هدد بلعيد بالقتل علنا في خطبة جماهيرية، وبعد أن أبلغ زملاؤه في الحزب وزارة الداخلية بخطورة الوضع رغم أن مسؤوليتها تقتضي أنها لا تحتاج إلى إخطار من أحد تجاهلت الوزارة كل ما جرى ولم توفر له أدنى حماية ليتم اغتياله بهدوء وثقة في الشارع العام. والعبث الحقيقي هو الجدل الذي نشأ بعد اغتياله، متمثلا في تصنيف الجريمة هل هي سياسية أم أمنية، بينما الحقيقة أنها فضيحة للدولة بكل المقاييس، لأن شكري بلعيد لم يكن طرفا في نزاع عائلي أو قبلي أو طائفي، بل كان قياديا سياسيا بارزا يمثل أحد أقطاب المعارضة، وبالتالي فهي جريمة أمنية في شكلها، لكنها حتما سياسية في مضمونها. بعد اغتياله قامت القيامة في تونس، واكتشف الناس خطورة الكارثة التي تحيق بهم، وحين يتبرأ فورا زعيم الحزب الحاكم وأقطاب حزبه من جريمة الاغتيال فكيف له أن يقنع الملايين التي خرجت تشير بأصابع الاتهام لهم؟ الحزب هو الذي يدير الدولة وهو المسؤول عن أمنها، وبالتالي هو المسؤول في النهاية عن اغتيال رمز سياسي تعرف أجهزة الأمن أنه مهدد لكنها لم تحمه من الخطر. في مصر، وفي توقيت متزامن، خرج أحد شيوخ الحزب المؤتلف مع الحزب الحاكم ليفتي في قناة تلفزيونية بوجوب أو جواز قتل رموز جبهة الإنقاذ المعارضة، انطلاقا من كونهم خارجين على بيعة الحاكم، ويبدو أن هذه الكارثة ستمر مرور الكرام دون أي تدخل حاسم من الحكومة ولو حتى بإغلاق القناة وتحذير ذلك الشيخ المتهور الدموي، أما توفير الحماية لمن ذكرهم بالاسم فالأيام المقبلة ستكشف ذلك، وهنا يبرز سؤال مقلق جدا: ماذا لو تبرع جاهل مفتون بعلم ذلك الشيخ لينفذ فتواه؟؟ مشكلة الأحزاب المتدثرة بالدين التي وصلت إلى الحكم أنها لا تؤمن بالمعارضة في العمل السياسي؛ لأنها في الحقيقة لا تمارس سياسة، وإنما تعتقد أنها مفوضة من الله بفعل ما تشاء، ومن يخالفها فلا بد أن ينزل به حكم الله، وهذه هي الكارثة.. للتواصل أرسل sms إلى 88548 الاتصالات ,636250 موبايلي, 737701 زين تبدأ بالرمز 259 مسافة ثم الرسالة [email protected]