لا يكاد المرء يعرف سببا واضحا لهذه الهستيريا التي تضرب العالم كلما شارفت سنة على الغروب وآذنت سنة أخرى بالبزوغ. صحيح أن هذه المحطة الزمنية الدورية هي من المناسبات القليلة التي توحد من حولها الجنس البشري برمته، وأنها عابرة للقوميات والطبقات والثقافات، ولكن الصحيح أيضا هو أن تقدمنا في السن عاما آخر لا يستوجب ذلك «السعار» الهذياني الذي يثلم الأرض لعدة أيام متواصلة. فلا يكاد أحد يلتقي بأحد قبل شهر كامل من انقضاء السنة حتى يبادره بالسؤال: «أين ستقضي سهرة رأس السنة؟». وكثيرا ما تكون مكانة الرجل ومنزلته متصلتين بالإجابة عن مثل هذا السؤال، حيث المكوث في المنزل دليل على الفقر أو البخل أو العزلة، في حين أن السهرة في فنادق النجوم الخمسة والتلذذ بأصوات مطربي ومطربات الدرجة الأولى تضع المجيب في خانة مختلفة تؤشر إلى الترف والثراء ورغد العيش. وليس الأمر بأي حال عائدا إلى المصادفات البحتة، بل إلى القوانين الجائرة للمجتمع الرأسمالي، حيث لا شيء مقدسا سوى الربح وجباية الأموال، وحيث الأعياد حكر على مستحقيها من الأثرياء والموسرين. ثمة سؤال آخر يطرحه الناس على بعضهم كلما التقوا عرضا على قارعة جلسة أو طريق «مع من ستسهرون ليلة رأس السنة؟»، لن يكون من الصعب على البعض أن يشيروا إلى عائلاتهم وجيرانهم وأصدقائهم الأقربين. ولكن ماذا عن الناس الوحيدين الذين لا صديق لهم أو عائلة أو حبيب؟ ماذا عن الذين يقيمون في مخيمات البؤس والهاربين من الحروب والمشردين في منافي العالم، والباحثين عبثا عن لقمة خبز أو حبة دواء؟ سيكون العيد بالنسبة لهؤلاء بمثابة نكء لجراحهم المزمنة وتذكير لهم بأنهم وحيدون ومتركون لمصيرهم وسط كرنفالات الصراخ والابتهاج والموائد العامرة. وليس بالمستغرب، من ناحية أخرى، أن ترتفع بين عيدي الميلاد ورأس السنة معدلات الانتحار، وبخاصة في مجتمعات الغرب، حيث من السهل على فكرة الموت أن تتسلل إلى رؤوس الناس الوحيدين والمهجورين أو الواقفين على شفير اليأس العدمي. لا أقول بالطبع إن على الناس أن يستقبلوا العام الجديد بالعزلة والكآبة والتحسر على الحياة المنقضية. ولكن الأمل بالمستقبل والفرح به لا يستوجبان هذا القدر من الجنون والصخب الجماعيين، ولا الإنفاق المفرط والإسراف في طلب اللذة، بل يتطلبان أنسنة الاحتفال وحقنه بشيء من التأمل العميق في جوهر الحياة ومآلها، وهو ما يعني بالضرورة العمل على التخفف من وطأة الحروب والكوارث المتعاقبة، ومساعدة المحتاجين وبلسمة جراح الأيتام والمعوزين، ورفع منسوب الحب بين بني البشر. أما الارتماء في أحضان المتعة الجسدية والصخب العاني، فليس سوى الوجه الآخر للهروب من مواجهة الواقع والعجز عن الاستجابة لمتطلباته الفعلية.. إنه ببساطة نوع من الضجيج المتعمد الذي يحدثه الخائفون على مصائرهم، متوهمين أن الضجيج وحده يكفي لإقناع «الوحش» الذي يتربص بهم بالانكفاء إلى الخلف.