بعد أن توجهت المملكة منذ سنوات عديدة نحو خصخصة العديد من الشركات الحكومية وطرحها في سوق المال، اتخذت المملكة منحى استراتيجيا قبل سنوات قليلة نحو الخصخصة في إسناد تنفيذ مشاريع البنية التحتية الضخمة إلى القطاع الخاص ثم تشغيلها وصيانتها على المدى الطويل. وسعت الوزارات والهيئات الحكومية المختلفة باختلاف طرقها وجهودها نحو طرح مشروعات البنية التحتية لديها للقطاع الخاص. وعلى الرغم من الزخم الضخم الذي صاحب مبادرات الدولة في خصخصة المشاريع وخاصة بطريقة الشراكة التمويلية (Private Public Partnership (PPP، وكذلك قصص النجاح في مبادرات «مشاريع الكهرباء والمياه المستقلة» IWPP، فإن مستقبل التمويل المشترك في المملكة ما زال مبهما ومعلقا في الميزان، بسبب الكثير من التحديات. مشروع القطار وظهرت بوضوح المشاكل التمويلية الهيكلية في عالم الخصخصة في المملكة بإيقاف المشروع المحوري للاقتصاد السعودي وهو مشروع قطار الجسر البري بقيمة مقدرة ب6 مليارات دولار والذي بدأ العمل على طرحه منذ 7 سنوات، حيث يعد معلما اقتصاديا وحضاريا عالميا، فيما لو تم تنفيذه. كما أنه كان من المتوقع أن يخلق شبكة من الاستثمارات المحيطة بالمشروع ذات العوائد المالية والاقتصادية العالية والمضاعفة ومايتبعها من إيجاد كم هائل من الوظائف للمشروع نفسه والمشاريع الجانبية له بمهارات متنوعة وعالية التقنية والمهنية، هذا عوضا عن العديد من المشروعات الأخرى ذات التمويل المشترك التي تم إما إلغاؤها أو تأجيلها إلى أجل غير مسمى. إن الانتقادات الحادة التي جاءت من القطاع الخاص محليا وعالميا ليست مستغربة في ظل حجم الخسائر الضخمة، ليس فقط في ضياع الموارد المالية والوقت من شركات القطاع الخاص والتحالفات الضخمة في الإعداد للمناقصات، بل أيضا في تكلفة الفرصة البديلة الهائلة لهذه الموارد. ووفقا للمقولة الشائعة «كيف أعاودك وهذا أثر فأسك One Beaten Twice Shy»، فإن تعثر وإلغاء هذه المشاريع أعطى إشارة سيئة للمستثمرين الذين أصبحوا غير مستعدين لخوض هذه الخسائر مرة أخرى بالتنافس على هذه المشاريع التي قد لا تنفذ أبدا. ومما لا شك فيه أيضا أن الأزمة المالية والأحداث السياسية في الدول العربية المجاورة للمملكة ساهمت بشكل سلبي في تدفق رأس المال الأجنبي لمشاريع التمويل المشترك، وصرف النظر عن عقد العديد من الصفقات في هذه المجالات، رغم أن هذا عكس ما المفترض به أن يكون، لأن حجم الفرص في مشاريع البنية التحتية والعوائد الضخمة الإيجابية المتوقعة لها جاذبة جدا فيما لو وضع الهيكل القانوني والاقتصادي الصحيح لها، إلا أن الإرادة السياسية في الجهات التنفيذية الحكومية المسؤولة تكاد تكون معدومة خاصة مع تدفق الإيرادات البترولية الضخمة للمملكة مما يجعل الرغبة في بذل مجهودات ضخمه للتكامل -وليس التعاون فقط- مع القطاع الخاص ضعيفة جدا، فمشاريع التمويل المشترك للبنية التحتية تكون فعالة وناجحة فقط لو قامت الحكومة بالالتزام نحو مشاركة القطاع الخاص فعليا في بناء وتشغيل وصيانة مشاريع البنية التحتية في جهة خاصة موحدة بشراكة 50% للقطاع الخاص مع الجهة الحكومية المصدرة للسياسات الاقتصادية، وبإدارة مستقلة حتى يتم التأكد من تخطي كافة العقبات البيروقراطية. وتقوم وحدة التمويل المشترك هذه بإعداد سياسات موحدة هيكلية قانونية لهذه المشاريع عامة لكل الوزارات. ثم بعد ذلك يتم وضع تفاصيل دقيقة منبثقة منها وفقا لكل مشروع حسب الوزارة المشرفة وطبيعة المشروع والمدى الزمني له. وأكبر التحديات التي تواجه المملكة ودول الخليج عامة تحوم حول عدم مقدرتها على تطبيق وإعادة صياغة النماذج العالمية للتمويل المشترك بما يتناسب مع احتياجاتها. حيث إن الدول التي نجحت في ذلك مثل كندا واستراليا وماليزيا مثلا، لم تأخذ في الاعتبار الاحتياجات الحكومية فقط بل أيضا اهتمت بالمتطلبات الاجتماعية والسياسية والديموغرافية، إضافة إلى استراتيجية النمو الاقتصادي لديها في المدى الطويل. فعلى الرغم من الجهود الكبيرة في طرح المناقصات للمشاريع المختلفة في البنية التحتية، إلا أنها جهود متفرقة وباجتهادات منفردة وليست تحت مظلة موحدة كبرى تتأكد من سلامتها وتوجهها جميعا في خدمة استراتيجية النمو للمملكة طويلة الأجل. إن عدم تكوين وحدة التمويل المشترك في المملكة أصبح له أثر سلبي على النمو الاقتصادي والاستفادة من السيولة المتدفقة على الدولة. فقد يقول البعض أن نمو الاقتصاد السعودي قارب 5% للعام الماضي 2011، إلا أن هذا النمو كان من المفترض أن يفوق ذلك بكثير، فوفقا لإحصاءات مؤسسة النقد ومن الشكل «المرافق» يتبين أن معدل الطاقة الاستيعابية للاقتصاد السعودي (أو بمعنى آخر بسيط نسبة ما تخلقه السيولة من دخل للمملكة) انخفضت بشكل كبير، وبصورة متزايدة في السنوات الأخيرة جراء تعثر المشاريع المخصخصة وعدم نجاح السياسات الاقتصادية في تحويلها إلى مشاريع مدرة للدخل بدلا من مستنزف لميزانيتها. كما أن ما يثبت ذلك أن دخل المملكة ما زال يشكل أكثر من 80% رغم كل ما سمعناه من خصخصة قطاعات ومشاريع جديدة، إلا أنها إما تعثرت أو قامت بعملها الدولة دون أن يكون لها أي مردود مالي على ميزانية الدولة والقطاع الخاص، أي أصبحت مشاريع استهلاكية وليست استثمارية. مما سبق يتبين لنا أنه لم يعد أمرا اختياريا أن ننجح كاقتصاد سعودي في خصخصة المشاريع الضخمة وخاصة مشاريع البنية التحتية مثل المياه والكهرباء والطاقة المتجددة والصناعات المتنوعة بشكل فعال، وإنما أصبح أمرا حتميا يتطلب تكاتف كافة الجهود نحو وضع التوجه الأمثل لذلك وتنفيذه (ووضع 3 خطوط تحت كلمة تنفيذه)، بشكل جاذب للاستثمار وخالق للوظائف ومعالج للمشاكل الاقتصادية. * المؤسس والرئيس التنفيذي لبنك جلف ون الاستثماري