هل الفتوى الشرعية تابعة للأمر الواقع أم العكس، إذ نجد في بعض المسائل المعاصرة من يفتي بتحريم أمرٍ ما، حتى إذا فرض نفسه بحكم الأمر الواقع أصبح يجيزه، إذا لم يحكم باستحبابه أو وجوبه. ومن ذلك ما قيل عن حقبة سابقة أن العلماء حرموا فتح مدارس للبنات، ثم لما فتحت هذه المدارس سجلوا بناتهم فيها، وقطعا العلماء الآن. أو أكثرهم. يفتون بوجوب أن يرسل ولي الأمر ابنته إلى هذه المدارس، على الأقل في المرحلة الابتدائية. وكذلك الأمر في قضية إدخال اللاقطات الفضائية إلى المنازل، فقد حرمها الكثير من العلماء والدعاة، وبعد انتشارها بفرض الأمر الواقع، أدخل كثيرون منهم هذه الفضائيات إلى بيوتهم. وفي وقتنا الحاضر؛ الرجال هم الذين يبيعون الملابس النسائية للنساء، والفتوى السائدة هو تحريم توظيف النساء في بيع هذه الملابس، إلا في مكان مغلق خاص بهن. وإذا حصل أن تم تأنيث هذه المحلات لا بالطريقة التي يرونها، فستجد من يفتي بأنه يجب على المرأة أن تشتري هذه المستلزمات من هؤلاء النسوة، وأنه يجب على رب العمل أن يوظف نساء لبيع هذه المستلزمات النسائية، فانظروا كيف تحول الأمر من التحريم إلى الوجوب. والفتوى القائمة الآن هي تحريم قيادة المرأة للسيارة، وتذهب المرأة إلى المكان الذي تريده إما: مشيا على الأقدام، أو مع السائق الخاص، أو بسيارة أجرة، وأحسن الأحوال مع محرمها؛ فهل يأتي اليوم الذي تصبح فيه قيادة المرأة للسيارة أمرا واقعا، فيفتي من كان يحرم ذلك بالأمس بأن لا يجوز للمرأة أن تذهب إلى المكان الذي تريده مشيا على الأقدام ولا مع السائق، بل يجب أن تذهب بسيارتها إن كانت مقتدرة، وعلى ولي أمرها أن يوفر لها ذلك إن كان مقتدرا، أو يوصلها بنفسه. إن من المعلوم أن الحكم في الشريعة الإسلامية قد يتغير بتغير الأحوال، وتنص القاعدة الفقهية: أن المشقة تجلب التيسير، ومن صور المشقة ما تعم به البلوى، إلا أني أرى أن أكثر ما ذكرته آنفا من تغير الفتوى ليس مبنيا على ذلك.. وهناك أسباب لهذا التغير والتبدل في الفتوى، منها: الاعتماد الكبير على مصدر التشريع المختلف فيه، وهو سد الذرائع، فتجد بعضهم ربما تتغير فتاواه أو أحواله كل عشر سنين بسبب ذلك، وفي المقابل نجد مِن العلماء من لم تتغير فتاواه منذ أربعين سنة، لاعتماده المباشر على الأدلة الصحيحة الصريحة، وما يقاس عليها، أو الإجماع، ولا يلجأ إلى سد الذرائع إلا في أحوال قليلة.