من الطبيعي أن ينحاز الفرد في أي مجتمع إلى مكونات هويته الثقافية والروحية، ولا سيما أنها تشكل نسيج تكوينه الذاتي، وتنفرد بصياغة انتماءاته إلى الكيانات المادية والمعنوية التي يرتبط بها، واعتبار ذلك طبيعيا لا يعني في كل الحالات افتراضا للصواب، بل يعني ترجيحا لهذا التوقع من ناحية احتمالات الخيار السلوكي، فممارسة الفرد للتحيز لا تكون صائبة سوى باتفاق ما يتحيز إليه مع ما يحكم به العقل. وهناك فرق بين التحيز النابع من الاقتناع العقلي المستند إلى الحقائق، وبين التحيز القائم على التشبث بما يوافق هوى النفس، فالأول يمارس في إطار الاعتماد على إمكانات العقل في إدارك طبائع الأشياء من خلال الكشف عن قوانينها الداخلية، أو فهم سلوك الظواهر وإرجاعها إلى قوانينها الداخلية التي تنبعث منها، بحيث يكون تبني الفرد لرأي ما مبنيا على تأكد عقلي من ارتباط الظاهرة بقانونها أو الأسباب ببواعثها، وهذا النوع يقف بصاحبه عند حدود الحماس والتأييد لما اقتنع به، في ظل إدراك كامل من جانبه بعدم القدرة على امتلاك الحقيقة كاملة، وهذا هو الأساس في تجنب فرض الرأي والتحلي بقيم التسامح وقبول التنوع. والثاني يتعدى كونه خيارا قابلا للتغيير إلى اعتباره فرضا نهائيا لا يمكن العدول عنه، حيث يختلط لدى صاحبه بدوافع إثبات الذات بدلا من أن يكون تعبيرا عن قدرتها في التوصل للحقيقة، والأشخاص الذين ينطقون عن الهوى هدفهم الحقيقي هو الإعلاء من قدر ذواتهم بقصر واحتكار تعبير الحقائق على حدود ما يقبلون، والفرق عميق بين شخص يتبنى رأيا على تبصر بالحقائق وبين آخر لا يقر إلا ما يوافق هواه. والتحيز ليس كشفا للحقيقة، وإنما وقوف عند ما يوافق الهوى ويشمل كل الممارسات التي ينغلق فيها الفرد على ما يذهب إليه، حتى لو كانت اجتهادا قائما على نظر عقلي. ويتصدر التحيز قائمة الآفات الفكرية التي تعوق التطور الحضاري وتؤدي إلى تراجعه، ويبلغ التحيز مداه في الخطورة إذا مورس من جانب فئة مدعومة بسلطة سياسية أو روحية أو اجتماعية، أو من جانب فقيه أو مفكر أو كاتب، إذ تعمل الملكات الاقناعية والتحليلية التي يمتلكها هؤلاء على فرض رؤاهم المتحيزة على أفراد المجتمع، بما يمتلكونه من وسائل تمكنهم من صياغة العقول وتشكيل اتجاهات الرأي العام، بل إن الخطر يتضاعف في حالة الفقيه أو المفكر إذا سجل آراءه المتحيزة في كتاب، الأمر الذي يؤدي إلى انتقال تحيزاته إلى واقع الأجيال القادمة والتأثير في درجة نضجهم الحضاري. والخطورة التي يشكلها المفكر المتحيز تكمن في تعويقه للتطور الحضاري بالنسبة لأتباع الثقافة التي ينتمي إليها، وشيوع التحيز وانتشاره يشكل خطورة بالغة على سلامة المجتمعات لأنه يدخلها في أتون صراعات إثنية ودينية لا يستفيد منها سوى أعدائها. [email protected]