من مكونات النزعة الإنسانية في القرآن الكريم، اعتبار القرآن أن الإنسان كائن مكرم، وأشار إلى هذه الحقيقة الجلية في قوله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا).. سورة الإسراء: (70). هذه الآية أصلت لقاعدة أن الأصل في الإنسان الكرامة، وأنها صفة ملازمة للإنسان بما هو إنسان، بغض النظر عن لونه وعرقه، لغته ولسانه، دينه ومذهبه، ولا يجوز سلب هذه الصفة وهتكها، أو تحقيرها والانتقاص منها، فالإنسان إنسان بكرامته، ومن دونها ينتقص الإنسان من إنسانيته، أي أن الإنسان كائن مكرم، ولا يكون إلا بكرامته. والقرآن الكريم في هذه الآية كان بليغا للغاية، حين استعمل وصف بني آدم عند حديثه عن الكرامة، ليؤكد على أمرين متلازمين، على أن الكرامة هي صفة أصيلة في النوع الإنساني، وعلى أن هذه الصفة تشمل جميع الناس بدون استثناء الذين يرجعون في أصلهم الإنساني إلى بني آدم، وليس هناك صنف من البشر خارج عن هذا الأصل الإنساني المشترك. والحكمة من هذا الوصف، أن الكرامة صفة سابقة على كل ما يظهر في الإنسان لاحقا من عوارض اللون أو اللسان أو الدين أو غيرها، وأن هذه العوارض مهما كانت طبيعتها لا تسلب الكرامة من الإنسان، ولا ينبغي أن تنتقص منها. كما اعتبرت هذه الآية أن الله سبحانه هو مصدر الكرامة للإنسان، وهو الذي فضله على كثير ممن خلق تفضيلا، وهذا يعني ضرورة أن يتمسك الإنسان بهذه الكرامة ولا يتخلى عنها أبدا، تحت أي ظرف من الظروف، وأمام أي ضغط من الضغوط، وفي أي حال من الأحوال، لأنها من الله وليس منة من أحد كائنا ما كان. ومن المكونات لهذه النزعة الإنسانية أيضا، مطالبة القرآن للإنسان لأن يعمل عقله، في دعوة صريحة وبينة لا تقبل التأويل أو الاحتجاج، فقد ظل القرآن يحث الإنسان على سلوك هذا الدرب العقلي والعقلاني، بلا خشية أو تأثيم، في موقف يظهر القرآن إلى جانب صف العقل، ومناصرا له على طول الخط، وبشكل يثير الدهشة والإعجاب. ومن هذه الجهة تفرد القرآن الكريم على جميع الكتب السماوية السابقة عليه، التي لم تعط منزلة للعقل، ولم تدع لإعمال العقل، كما هو في خطاب القرآن الذي يعد أول كتاب سماوي يدعو لإعمال العقل بوضوح كبير. والدعوة لإعمال العقل هي دعوة لتكميل النزعة الإنسانية وترشيدها، ومن دونها لا تكتمل هذه النزعة، ولا تكتسب صفة النضج والرشد. هذه لعلها أبرز ملامح وعناصر ومكونات النزعة الإنسانية في القرآن الكريم، والتي تكشف وتثبت بلا ريب عن وجود نزعة إنسانية حقيقية ومتفوقة في النص القرآني، نزعة بحاجة إلى تكوين وتعميق المعرفة بها، والتنبه المستمر إليها، والعمل على استثمارها والاستفادة منها في تهذيب وإصلاح مناهج وسلوكيات الإنسان والجماعة والأمة.. من هنا فلا طائل للمحاججة والاحتجاج على النزعة الإنسانية وجودها وحقيقتها في القرآن الكريم بعد ما ثبت ليس وجود هذه النزعة فحسب، وإنما وجودها وتفوقها أيضا.