غزوة بدر من أيام الله الخالدة، وكانت الانطلاقة الأولى لمعارك الجهاد التي تجلى فيها نصر الله وتأييده، وأعز الله سبحانه وتعالى فيها جنده، وجعلها هزيمة للفئة المشركة وحقق أمل نبيه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت هي القصاص وقطع دابر الكافرين، وبدلا من أن تكون اعتراضا لقافلة قريش أرادها الله أن تكون معركة بين الإيمان والكفر، لينصر الله فيها نبيه وعباده الصالحين نصرا عزيزا، ويهزم بها أعداءهم شر هزيمة، ويحفها بالعديد من تأييداته ومعجزاته ما جعلها اعظم معركة في تاريخ الإسلام، وسمى الله يومها يوم الفرقان لأنها فرقت بين الحق والباطل، وهزمت فيها قوى البغي والفساد، ولم يغن عنهم كثرة عددهم وعدتهم من الله شيئا، وكان الله مع المؤمنين. ذكرى هذه المعركة الخالدة هي فرصة لنتعرف على دروسها وعبرها، والمواقف البطولية الرائعة التي قدمها الصحابة لإعلاء كلمة الله، الذين بذلوا اقصى ما يستطيعون لتبقى جذوة هذا الدين مضيئة وقدموا اروع صور البطولة والإيثار، وكان الله بجانبهم ينصرهم بتأييده ومعجزاته حتى يمكن لدينه، وليكسر شوكة قريش وعنجهيتها وغطرستها، ومن ذلك التأييد انه سبحانه قلل عدد المشركين في نظر المسلمين فجعلهم يرونهم بعددهم وعدتهم قلة وهم في الحقيقة كثيرون، ثم من ناحية اخرى اظهر المؤمنين في نظر الكفار قلة ليغريهم انهم منتصرون لامحالة فتقع الحرب « وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا» (الأنفال 44)، ولكن حين التقى الجمعان وبدأت المعركة جعل الله تعالى المشركين يرون المؤمنين ضعف ما كانوا عليه «قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار» (آل عمران 13). فألقى الله الرعب في قلوبهم، والضعف في عزائمهم ليضرب المؤمنون اعناقهم بكل يسر «سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان» (الأنفال 12). ولكي يزداد نشاط المسلمين وقوتهم استعدادا للمعركة انزل الله السكينة على قلوبهم، وغشيهم النعاس فزال تعبهم واشتدت عزائمهم وكذلك انزل المطر ليثبت الأرض من تحتهم بعد ان كانت تسيخ بهم «إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام» ( الانفال 11). ومن تأييداته سبحانه وتعالى واعجازه ان جعل تلك الحفنة من التراب التي التقطها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورماها في وجوه الكفار تؤذي ابصارهم وتعيقهم عن القتال، وقد ذكر الله تعالى هذا في قوله «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم. ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين» ( الانفال 17، 18)، وارسل الله ملائكة ليثبتوا الذين آمنوا في المعركة فقاتل الصحابة قتالا لا نظير له، فلم يشعروا بخوف وذلك من تثبيت الملائكة، وإنزال السكينة «إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين. وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم..» (الانفال 9، 10)، وهُزم المشركون هزيمة نكراء، وقتل كثير من صناديدهم، وفروا خائبين. هكذا كانت بدر تأييدا ونصرا مؤزرا من عند الله، لم يشهد التاريخ مثله في عصوره كلها، وكان ابطالها خير الناس الذين قال عنهم صلى الله عليه وسلم «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (صحيح البخاري)، هم من أفذاذ الصحابة رضوان الله عليهم من المهاجرين والأنصار، ومن ذوي العزائم الصادقة والنفوس العالية، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه لم يخذلوا الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بل طمأنوه بإيمان راسخ وقالوا له على لسان الصحابي الجليل سيدنا سعد بن معاذ رضي الله عنه «امض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد» (البداية والنهاية لابن كثير)، فكانت كلمات خطها التاريخ بحبر من نور، ويتجدد عطاؤها بتعاقب الأيام وتوالي الدهور وظلت وستظل تبعث في قلوب الأجيال الإيمان والثقة بأن نصر الله لدينه الحنيف آت لا ريب فيه، وما على المسلمين الا ان يعودوا عودة صادقة الى الله حتى يأتي نصره، وسوف يجعل الله تعالى من بعد العسر يسرا.