ببساطة تحاكي السهل الممتنع، يتنقل بنا محمود تراوري في كل عمل سردي بين الأماكن ليرسم لنا ملامح البيئة الحجازية بحرفنة المبدع وحس الإنسان البسيط، كما أن أعماله تشتغل بالتفاصيل الدقيقة للمجتمع. وينهض نص تراوري في حضرة لغة بصرية، تجسد الجمال من زوايا متعددة لتوسيع آفاق التعاطف مع النص ودفع التذوق الى مرتبة أسمى وأعمق. ولمعرفة لحظة ولادة نصوص تراوري المغروسة في أعماق الأرض والإنسان، سافرنا معه في رحلة إبداعية مثيرة بكل تفاصيلها، مقتربين من عالمه الخاص وحاولنا أن نعيش أجواءه لحظة كتابة روايته (أخضر يا عود القنا)، فكان جميلا في تصويره لتلك الحالة الإبداعية حيث رواها بطريقة مبهرة لا تقل في حبكتها عن تماسك نصوصه الإبداعية. قصة ولادة النص وقال محمود تراوري ل«عكاظ»: أحيانا تتفلت من ذاكرة الكاتب لحظات سببية لكتابة ما، وفي هذا الفصل من رواية (أخضر يا عود القنا) التي أصدرتها عام 2011، أستطيع أن أتذكر أنني كنت ذات «عصرية» غائمة/حالمة من فبراير 2007، أرتقي أعلى ربوة في جزيرة غوري التاريخية بالسنغال وحيدا، بعد أن تركت رفيقي الدكتور عبدالله الغامدي، والدكتور نعمان كدوة بعيدا في أحد أزقة الجزيرة ذات التاريخ المخزي للإنسانية. من تلك الربوة كنت أتأمل عميقا في مياه المحيط الأطلسي، غربا حيث جغرافيا صنعت ألما في تاريخ المكان، وشرقا حيث كوى الأمل كانت تنفتح تجاه بيت الله لأهالي المكان، مقارنات خاطفة/كاوية، كانت تعبر ذهني، بين من اقتيدوا قسرا وقهرا باتجاه الغرب، وبين من رحلوا بطمأنينة في الاتجاه الآخر. حقيقة لا أعرف لم امتلأت روحي وقتها بكل تشكلات الهوية وتقاطعاتها، وأنا كنت قد بدأت إرهاصات العمل منذ فترة. المهم ما إن اقترب الغروب، إلا وأنا أهبط الربوة العالية الخضراء، وذاكرتي تفيض، بأفكار ما ورد في هذه المقاطع، وصلت الفندق مساء، فشرعت في تدوينها، ثم أكلمت العمل الذي سعى في رؤيته لمقاربة ماهية الهوية، وكيفية مواجهتها أو تعاطيها مع أفكار العولمة وآلياتها، بل وشراستها أحيانا.