الجدال الذي يحصل في الساحة الثقافية، والاجتماعية، والسياسية، في الواقع العربي، يشي بنوع من التغيير المستقبلي في البنى التقليدية التي اعتادت عليها المجتمعات العربية منذ فترات طويلة، مما أفضى إلى سكون ثقافي عام على المنطقة، الذي يعني أن التغيير الحاصل على كل المستويات يحتاج إلى فترات طويلة، ومرتبكة أحيانا؛ لصناعة واقع مختلف عن الواقع التقليدي العام. السؤال: كيف يمكن قراءة هذا التغيير؟ برأيي، أن الوضع لايمكن له أن يقرأ بشكل جيد، لكي يمكن أن نقول عنه تغييرا حقيقا، ما لم يطرح كل الأسئلة الثقافية على كل المعطيات: الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية لكي يعيد مساءلتها مساءلة معرفية؛ إذ تصبح القراءة ناقصة في سؤال التغيير المطروح في الساحة العربية لأنها الأسئلة التي تعيد ترتيب الأوراق، وبحسب المشاهد حتى الآن، فما يزال سؤال التغيير يختص في الجانب السياسي دون الجوانب الأخرى، والثورات العربية كانت تخص هذا الجانب دون غيره. لكن هذا لا يعني عدم طرح الأسئلة الأخرى لاحقا متى ما حلت المشكلة السياسية كونها هي الأكثر هيمنة على الواقع العربي بلا استثناء، ولكونها كانت المعضل الأكبر في الواقع العربي، وهي (ربما) بداية انفراط العقد الثقافي في طرح بقية الأسئلة. طبعا تبقى الأسئلة معلقة ومفتوحة حتى تتضح الأمور أكثر؛ لكن هذا أيضا لا يعني تأجيل طرح الأسئلة الثقافية من الآن، وبشكل نقدي وجذري في آن واحد، فالحديث عنها هو حديث في سؤال التغيير نفسه الذي يطمح له الجميع، وعدم الاقتصار على مشكلة دون المشاكل الأخرى، مهما كانت شدة معضلتها لتشابك القضايا جميعا، من خلال طرح النقد كأولية تساؤلية تجاه تلك القضايا. قد يتضايق البعض من كثرة النقد سواء كان معرفيا أو اجتماعيا أو دينيا أو حتى سياسيا، مما يجعل الشخصية ذات الرؤية النقدية غير مرغوبة من قبل الجميع على اعتبار أنه هدم لكل القيم التي عاشت عليها المجتمعات العربية، مع أن القيم ليست في الأخير إلا معطى من المعطيات التاريخية؛ أي أنها خاضعة للجانب الاجتماعي، مهما كان اتصالها بالقيم المتعالية، تماما كما هو بالنسبة للجانب الثقافي أو الجانب السياسي، ومن هنا تصبح عملية النقد مقبولة تماما؛ لأنها عملية تتعامل مع المعطيات المنقودة بوضعها الطبيعي، فلا تمنحها أكثر مما هي عليه. بل يمكن القول: إن النقد ضرورة معرفية، كما هو ضرورة دينية، وضرورة سياسية واجتماعية؛ لأنه على المستوى الثقافي: (المعرفي أو الديني) يمنح فرصة رؤية الخلل الثقافي في الجانبين، مما يعزز عمليات التجديد الثقافية، كالحديث عن تجديد الخطاب الديني مثلا. أما على المستوى السياسي والاجتماعي، فهو يعطي فرصة لتعزيز مسيرة الإصلاح السياسي، الذي هو مسيرة المجتمع نفسه على اعتبار أن المجتمع هو القاعدة الهرمية لمفهوم السلطة العام. وحينما نشدد على ضرورة النقد كأساس معرفي؛ فإننا نشدد أيضا على تشعب هذا النقد لكل المجالات بلا استثناء، ليكون نقداًجذريا لا يتعامل مع معطى دون المعطيات الأخرى لتداخلها، وتأثير بعضها على بعضها الآخر مع الاختلاف في نسبة التأثير بينها، ولذلك لابد ألا نكون حساسين من هذا النقد؛ لأنه القنطرة الأولى لعملية التغيير الشاملة.