لقد أحل الله البيع وحرم الربا، لذا فإن من حرم البيع هو كمن أحل الربا سواء بسواء، فتحليل الحرام وتحريم الحلال كلاهما رد للحكم على الله، وهو غاية في إفراط أو تفريط تنهى عنه وسطية الإسلام وتنأى بالمسلم عنه. فهناك من الناس من يحرم البيع والشراء فيما يعرف بالبيع بالتقسيط، وهناك آخرون يحلون الربا متعذرين بأنه ليس إلا تراضيا بين طرفين، ولا استغلال فيه لأحد أو ظلم لأحد، أما شريعة الإسلام فهي الوسط بين هذا الغلو وذاك التهاون، فالمحرم في الإسلام هو الربا، فضلا كان أو نسيئة، وربا الفضل قد يشكل على بعض الناس فيقعون فيه غفلة ولا يكادون يشعرون، وهو ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق، ولا التمر بالتمر، إلا مثلا بمثل يدا بيد» فلا يجوز بيع قدح من قمح وإن كان جيدا بقدحين من تمر وإن كان رديئا. ولكن الصحيح أن يبيع المرء ما عنده بما شاء من نقد أو سلعة أخرى غير التي يبيعها، ثم يشتري ما ليس عنده بما شاء من نقد أو سلعة أخرى غيرها. ويلحق بذلك النوع من الربا المحرم أن يبيع التاجر بضاعته في المكان نفسه الذي اشتراها منه، من غير أن يحوزها، فهو كأنما دفع للتاجر الذي اشترى منه مبلغا من المال، ثم أخذ من التاجر الذي باع إليه مبلغا أكبر، ويكون شراؤه هذه البضاعة عندئذ محض لغو لا ترتفع معه شبهة الربا. أما إذا اقترض المال من المصرف ثم اشترى السيارة ثم عاد فدفع المال أقساطا إلى المصرف مع الزيادة فهذا هو النوع الآخر من الربا، وهو ربا النسيئة المحرم كذلك. فهؤلاء جميعا إنما قد أحلوا الربا وإن تحايلوا عليه، وعلى الطرف النقيض لهم تجد آخرين يبالغون في التحوط حتى أنهم يحرمون البيع بالتقسيط، وحكم الإسلام واضح بين هؤلاء وأولئك، في أن بيع التقسيط هو في حقيقته بيع معلوم ابتداء لا غدر فيه ولا تجهيل، طالما دخل المبيع في ملك شخص ملكا حقيقيا ثم خرج منه بيعا إلى آخر. هكذا تتجلى وسطية الإسلام سبيلا سويا بين إفراط المتنطعين الذين يجعلون من الحمل جملا، وبين تفريط المتهاونين الذين يجعلون من الجمل حملا، وسطية لها مفهوم أعم وأرحب من مجرد التوسط بين طرفين، فهذه هي النظرة القريبة لمفهوم وسطية الإسلام، ولكن النظرة العميقة لهذا المفهوم الرحب ترى هذه الوسطية منهجا كاملا شاملا في حياة المسلم في عقيدته التي تقر في قلبه، وفي عبادته فيما بينه وبين ربه، وفي معاملاته مع إخوته من بني الإسلام. * القاضي في ديوان المظالم في جدة