مما لا شك فيه أن المدن هي أحد أعظم الاختراعات البشرية. توفر لنا بلطف الله ومشيئته عز وجل فرصا إنسانية كبيرة ذات محاور متعددة: خدمات أمنية، وصحية، وتعليمية، وتربوية، وطاقة، وتجارة، والآلاف من الخدمات والمرافق. كلها تتيسر بمشيئة الله بسبب كثافات البشر التي تسمح بميزات اقتصادية رائعة. ولو تأملت في مفهوم الحضارة ستجد أن المكتسبات العمرانية ستكون عادة في مقدمة المدلولات الحضارية للشعوب عبر التاريخ، والمدن هي أكبر تلك المكتسبات الحضارية. كلام فلسفي كبير ومتعوب عليه، ولكن الموضوع مهم من الناحية العملية أيضا لأن خيارات المعيشة اليوم أصبحت غالبا «متمدنة». بعدما وصل عدد سكان كوكبنا الى أكثر من سبعة بلايين نسمة منذ بضعة أشهر حسب الإحصائيات الرسمية. والمقصود ب«التمدن» هنا هو أن أغلبية البشر أصبحوا من سكان المدن، ويبدو أنه لا عودة الى اسلوب الحياة القديم خارجها. وفي الواقع فلو نظرت الى المدن العملاقة ستجد أنها في حالة ازدهار سكاني عجيب. وعجائب المدن كثيرة فعلى سبيل المثال نجد أن عدد سكان مدينة طوكيو الكبرى (أي شاملة ضواحيها) يفوق عدد سكان وطننا بأكثر من عشرة ملايين نسمة. وبالمناسبة فمساحتها هي أقل من ثلاثة أمثال مساحة محافظة جدة. وستجد أن اقتصاد تلك المدينة يولد ما يفوق الناتج الإجمالي السنوي لدول بأكملها.. أكثر من سبعة آلاف بليون ريال سنويا.. لاحظ أن هناك درزن أصفار على يمين السبعة مما يجعله من الأرقام المهولة فعلا. ومنذ حوالى مائة سنة كانت هناك 16 مدينة «مليونية» فقط، أي تلك التي يفوق عدد سكانها مليون إنسان، ومعظمها كانت في أوروبا وأمريكا، واليوم وصل عددها الى أكثر من 442 مدينة. تخيل أن معظمها في الدول النامية. وبين كل حين وآخر يسعى خبراء العمران لتطوير قائمة لأهم المدن المؤثرة على البشرية. منذ بضعة سنوات طرح مصطلح «نيلون كونج» NYLONKONG على وزن «نصف كم» لا مؤاخذة، والمقصود يلخص بداية أسماء مجموعة مدن: نيويورك، ولندن، وهونج كونج، وكانوا في المقدمة. والآن نشرت مجلة «ناشيونال جيوجرافيك» العالمية تصنيفها الجديد ويشمل مدن نيويورك، ولندن، وطوكيو، وباريس، وهونج كونج، وشيكاجو، ولوس أنجلوس، وسنغافورة، وسيدني، وسيول. وقد تم اختيارها على أسس «عقلانية» تشمل خمسة مجالات رئيسة وهي: النشاط التجاري، ورأس المال البشري، وتبادل المعلومات، والتجربة الثقافية، والانخراط في السياسة. ومع احترامي لكل هذا المنطق المحترم من هذه المجلة المحترمة جدا، وخبرائها المحترمين جدا جدا، فلدي كلمة واحدة للرد على هذا الموقف وهي «أفا»! كيف نتجاهل أهمية المدن الروحانية ونعتبرها أقل أهمية من العناصر العقلانية والتجارية والسياسية؟ عطاء المدن الحضاري لا يقاس بعدد الجوالات، والتلفزيونات، والسيارات، والخدمات البنكية التي تنتجها. العطاء الروحاني هو المقياس الإنساني الأهم والأكثر تأثيرا على البشر والبشرية. ذلك لأنه لا يقارن بالسلع البلاستيكية أو المعدنية، أو الورقية أو غيرها، ولا يقاس عمره الافتراضي بالشهور أو السنوات، ولا حتى بمئات السنين. تخيل ما توفره مكةالمكرمة، والمدينةالمنورة، والقدس الشريف من خدمات روحانية، ولن تجد هناك وجها للمقارنة مع المدن المختلفة عبر التاريخ مهما عظم شأنها. والخبراء أحرار طبعا في اختيارهم، ولكن الواضح أنهم في هذه الوقفة أغفلوا أحد الجوانب الرئيسة في الموضوع فلم يشمل تصنيفهم الأعلى والأهم. لا في «النصف كم» ولا في «الكم كله». أمنية في كل دقيقة ستجد ملايين البشر الذين يتوجهون نحو مكةالمكرمة في مواقعهم المختلفة حول العالم. ففي الصلوات المختلفة في تلك المواقع نجد أنها تكاد أن تكون متصلة حول الكوكب المأهول بمشيئة الله. ولا مثيل لذلك. والتجربة الروحانية بداخل الحرمين الشريفين لا تقارن بأية مدينة أخرى اليوم وكل يوم. بداخل المواسم وخارجها. وأما وضع القدس فهو يعكس القداسة، والأمانة، والنضال أيضا، فهي تقاوم اليوم كما قاومت عبر القرون الطويلة. أتمنى أن نتذكر أن الله عز وجل قد أكرمنا بأفضل بقاع الأرض. وهو من وراء القصد. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 122 مسافة ثم الرسالة