الخلق وجمعه أخلاق ، هو نتاج معطيات الدين والطبع والسجية، والأخلاق في تجسيدها العملي تعكس صورة الإنسان الباطنة، وهي في ذات الوقت تمثل أوصافها ومعانيها، ويعبر عنها في ظاهرة السلوك الإنساني، مصبوغة بالقيم والقواعد العملية التي يلزم الأفراد والمجتمع، على حد سواء، مراعاتها في مختلف مظاهر الحياة. وفي المجتمعات الإسلامية تحتل الأخلاق مرتبة عالية في مختلف أوجه التعامل بين جميع أفراد المجتمع متمثلة في العدل والإنصاف والتعاطف والتراحم، قال الله تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم (وإنك لعلى خلق عظيم) سورة القلم، الآية 4، والقرآن الكريم خطاب إنساني لجميع بني البشر، تحوي تعاليمه أطر الأخلاق التي يجب أن يكون عليها الفرد ذكرا أو أنثى والجماعة والمجتمع والعامة والخاصة يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم، قال تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) سورة الأنبياء، الآية 107، قال عز وجل في كتابه المبين: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) سورة آل عمران، الآية 102. كما أن السيرة النبوية رافد أساس من روافد الأخلاق، فهي النموذج العملي للقيم التي نادى بها القرآن الكريم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) صححه الألباني. وفي العلاقات المجتمعية وجميع مناحي الحياة، ومع تنوع المجتمعات تتنوع الألسن واللغات، والثقافات والحضارات والتاريخ والعادات والتقاليد وأنماط الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتبرز الأخلاقيات مرتكزا أساسيا لطرق ووسائل التواصل السليم والتعامل السوي بين بني البشر ومعيارا لتقدم الأمم ورقيها في سلم الحضارة الإنسانية في مختلف العصور، أوجب الشرع الحنيف حسن التعامل بين العامل وصاحب العمل، وطالب الأول بالإتقان، والثاني بالحرص على أداء الواجب، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) سورة الأنفال، الآية 27، كما نظم العلاقة بين الأغنياء والفقراء فأوجب الزكاة ركنا من أركان الإسلام الخمسة قال تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) سورة البقرة، الآية 277، ودعا إلى العطف على الفقراء وبذل الصدقات قال تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) سورة آل عمران، الآية 92، كما أوجب المودة والرحمة والإحسان بين بني البشر بدءا بالأسرة؛ نواة المجتمع، من خلال إطار للعلاقة الأسرية بين الرجل والمرأة قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) سورة الروم، الآية 21، وقال تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) سورة الطلاق، الآية 2، ذلك لأن من أهم مقاصد الشريعة وأهداف الزواج حفظ النسل وتوالد البشرية جيلا فجيل وتكون المجتمعات البشرية وعمارة الأرض، وإقامة الشريعة وإعلاء الدين، قال تعالى: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب) سورة هود، الآية 61، وقال تعالى: (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا) سورة الفرقان، الآية 54، كما هو كذلك بين الوالد وولده، قال تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) سورة البقرة، الآية 233، والولد ووالده، قال تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) سورة الإسراء، الآية 23، وهو كذلك بين جميع أفراد المجتمع على أساس التكافل والتعاضد والتعاطف، فجعل المجتمع المسلم كالجسد الواحد، قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) صحيح مسلم، ومد العلاقات الخارجية في المجتمع، وبين المجتمعات، على أساس الرحمة والعدل والتعاون على البر والتقوى، قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) سورة المائدة، الآية 2. وقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم برسالته وسنته ليتمم مكارم الأخلاق، وينشرها بين الأفراد والمتجمعات من منطلق البعد الروحي للإنسان، لتشمل مجالات العلوم وأبحاثها والفنون وتطبيقاتها، ولتمتد إلى البعد الاجتماعي وسلوكياته (فاقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها) سورة الروم، الآية 30، من ذكر وتلاوة ودعاء إلى جانب أخلاق وفضائل إنسانية اجتماعية يسود فيها الصدق وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والإحسان، وهي تتماهى مع عمارة الأرض والحياة بكرامة والعدالة للجميع من خلال العدل والمساواة والحرية الفردية والجماعية واحترام الحقوق. وفي مجال احترام حقوق الإنسان، وتشريعاته، التي يأتي في مقدمتها الكرامة والحرية واحترام الشخصية الفردية، كما هي في مفهومها العام الحفاظ على شمولية الرعاية العامة للأفراد وكرامتها الجماعية، وهي منصوص عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية، كما سبق، ويجسدها في العصر الحديث وفي مختلف المجتمعات البيان العالمي لحقوق الإنسان والعهود الدولية التي أصدرتها الأممالمتحدة والمبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأممالمتحدة والطابع العالمي المترابط لجميع حقوق الإنسان ومعطياتها ومنها: - الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. - العهدان الدوليان الخاصان بحقوق الإنسان. - العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. - العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. - الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة والبرتوكول الاختياري التابع لها. - واتفاقيات دولية عديدة ذات صلة. وهي تشتمل على منطلقات مرجعية ومواد تشريعية متكاملة تشتمل على مختلف الجوانب ذات الصلة وآليات عمل ولجان متابعة وإشراف. والإنسان الفرد في تصرفاته، ينهج السلوك البشري المتأصل في الجنس الآدمي وكينونته وغريزته، وسلوكه الجنسي رجلا أم امرأة وموروثه «البيولوجي» وبنائه وإرثه الثقافي لبلده وعصره والبيئة والظروف المحيطة به.. وفي العلاقة الاجتماعية بين الإنسان وأخيه الإنسان بين أفراد الأسرة وبين أفراد المجتمع على مختلف طبيعة التواصل والتعامل ودرجاته وعناصره رب أسرة، أما، أخا، ابنا شريكا في العمل، موظفا أو عاملا، رئيسا أو مرؤوسا أو غير ذلك تبقى للأخلاق صبغتها، على أديم السلوك البشري على اختلاف المجتمعات البشرية وتباينها، قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) سورة الحجرات، الآية 13، وتتفق الشرائع السماوية على المبادئ والأخلاق العامة والحفاظ على الضرورات الخمس في مقاصد الشريعة (الدين، والنفس، والعقل، والعرض والمال)، قال تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) سورة آل عمران، الآية 19، وفي الحياة المعيشية تنظم الأخلاق المهنية والخدمات المجتمعية أنماط السلوك وطبيعة التعامل في البيئة العملية. في العلاقة بين العامل وصاحب العمل سواء في القطاع العام أو الخاص نجد أن المرتكز الأساس في بيئة العمل، أن يكون العامل على دراية وافية بالواجبات الوظيفية وإدراك كاف لمتطلباتها من جهة، ومعرفة واعية بحقوقه المادية والمعنوية من جهة أخرى، ليمكنه تأدية الأولى على الوجه الأكمل والحصول على الثانية بنفس القدر، إلى جانب عوامل ومعطيات أخرى مكملة، المرجع فيها مكارم الأخلاق والقيم السائدة في المجتمع، المتمثلة في مجملها في الأخلاق. ومن خلال النصوص الشرعية يمكن تحديد مواصفات العامل فيما يلي: 1 الأمانة، حتى لا يخون قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أمانتكم وأنتم تعلمون) سورة الأنفال، الآية 27. 2 صدق اللهجة، حتى يوثق في خبره قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) سورة التوبة، الآية 119. 3 قلة الطمع، حتى لا يرتشي (التعفف) قال تعالى: (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما) سورة النساء، الآية 161. 4 التناصف وعدم التعاطف مع الهوى قال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) سورة النحل، الآية 90. 5 التذكر والتوثيق وحفظ الحقوق قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) سورة البقرة، الآية 282. 6 الذكاء والفطنة، حتى لا تدلف عليه الأمور قالى تعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) سورة النساء، الآية 71. 7 أن لا يكون من أهل الأهواء، فيخرجه الهوى عن الحق إلى الباطل قال تعالى: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) سورة القصص، الآية 50. ويرى الغزالي أن هذه المواصفات تتمثل في صفات هي: «العلم والعقل والشجاعة والفطنة واليقظة والصدق مع كتمان السر واللباقة والتجارب الواسعة»، ويستشف من ذلك أن صلاح الخدمة من صلاح العامل وتمتعه بالصفات اللازمة لها. وفي المقابل على رب العمل والرئيس حقوق وواجبات، حسب مقتضيات العمل وطبيتعه، ومستوى ومجال العمل وبيئته، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته، وعبد الرجل وفي طريق: والخادم راع على مال سيده، وهو مسؤول عنه، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسؤولة، سمعت هؤلاء عن النبي وأحسب النبي قال: والرجل في ماله أبيه، ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) صححه الألباني. وقس على ذلك مناحي الحياة الأخرى وأعمالها، وتلك هي المدرسة، وأنعم به من مدرس.. ونسأل الله العلي القدير أن يجعلنا طلبة نجباء فيها، نستقي من معينها ونجسد تعاليمها حقيقة عملية ماثلة للعيان في جميع الأعمال وكل الأحوال.. والله الموفق. * عضو مجلس الشورى [email protected]