الارتفاع شاهق، والمنظر مهيب، كل ما في المكان تلتقطه عدسة العين، لتبدأ فرز الغث والسمين، الجميل والقبيح، ولأننا بشر تسقط نظرتنا الأولى على النشاز وحين تمتلئ منه تفتقد إلى القدرة على رؤية الحسن بعد ذلك. انطلقت على غير العادة في رحلة صباحية إلى وسط جدة، حيث التاريخ ونواة التكوين، لأصعد إلى مكان شاهق أرتشف فيه فنجان قهوة، وأرمق التاريخ من مكان عال، لكن ما أن تبوأت مكاني من الجلوس، حتى ترسخ في ذهني أن زياراتي للمنطقة في الليل، كانت تندس خلف جنح الظلام، فكان سواد الليل يغطي البصر والبصيرة. نظرت بأسى إلى طرقات الجدة، وإذ بها متهالكة، تملأ التجاعيد وجهها العتيق، أيقنت حقا أنها بلغت من الكبر عتيا، فرواشينها متدلية كضفائر العجوز، وأربطتها تأنّ وجعا من ألم الوحدة، شاهدت الشارع المقابل ل(قابل)، وجدت الحمام يقتات مما تركه أهل الخير، الذين يتعمدون رسم (الوسخ) على الأرض، محزن حال النوافير التي تعاني العطش، وأكوام الأوراق التي خلفها البساطون تدمي القلب، لا شيء هنا يوحي بأن ما في المكان مدينة تاريخ، وهناك في الأفق البعيد، على أسطح المنازل أكوام نفايات تضاهي الملقاة على الأرض. تحاملت على نفسي، أدرت ظهري للمكان، تناولت قهوتي الخالية من السكر، بدأت أفكر كيف لنا أن ننتشل التاريخ من النسيان والتلطيخ، وتساءلت هل لوحات المحال التجارية الواقعة على أزقة البلد مجانية!! ولا تتقاضى البلدية مقابلها أي مبلغ، وهل النظافة حكر على الشركات المتعاقدة!! سندت طولي، دفعت فاتورة باهظة الثمن، توحي بأني احتسيت فنجان قهوة في أحد المقاهي العالمية، توقعت أن غلاء ذلك الفنجان ربما يدفع صاحب المقهى للمساهمة في نظافة المكان بالتشارك مع الأمانة، خرجت بحثا عن عامل نظافة في المكان لم أجد.. رفعت ثوبي من طرفه كي لا يتسخ، وغادرت العتيقة وأحياءها التي اتفقنا معها سلفا على أنها (المظلوم). التاريخ يا أمانة جدة يغرق في النفايات والأرض المزيتة بالوسخ، وأستغرب كيف يتجمع سرب الحمام المسالم هناك.. أليست المنطقة مهوى السياح حيث يتم إيصالهم في حافلات مكيفة وفارهة.. أعتقد أنهم سيفضلون التنزه عبر نوافذ السيارات التي تقلهم خوفا على أجهزتهم التنفسية، وملابسهم من الأوساخ. [email protected]