أثارت حوادث ميدان (ماسبيرو) في القاهرة في الأسبوع الماضي صدمة ضخمة في الشارع المصري، وأثارت ضجة في وسائل الإعلام العربية والأجنبية. وكانت بلدان أخرى في المشرق العربي قد مرت بأزمات مشابهة خلال الأعوام العشرة الماضية. وعاشت لبنان عقدا ونصف من تاريخها المعاصر في حرب أهلية طائفية. ما حدث في لبنان، وما يحدث في بعض بلدان المشرق الأخرى ليست إلا نذر شر ينبغي وأدها في مهدها. ومن ناحية علمية، فإن مصطلح الطائفية يعد مصطلحا غريبا أو مستحدثا عند العرب، فلا نجد له تفسيرا لغويا في القاموس المحيط، إلا باعتباره «جزءا من الشيء»، أو «قطعة منه». ومثل هذا التفسير اللغوي يرمز إلى مصطلح محايد وغير مسيس. أما في بعض اللغات الأوروبية مثل الإنجليزية، فإن مصطلح الطائفية هو مصطلح يحمل الكثير من معاني الصراع والتصادم بين فئات داخل مجتمع معين، أو داخل منظومة فكرية أو مذهبية. وقد سمى العرب القدامى المسألة الطائفية «الفتنة»، وهي كما يقول الأزهري في لسان العرب «الابتلاء والامتحان»، وهي «محنة»، أو «كفر» أو «اختلاف الناس بالآراء»، ولعلها تصل إلى «الإحراق». وربطوا الفتنة بالهرج، وربطوها كذلك بأشراط الساعة. وبالجملة فإن الفتنة هي نتيجة حتمية للطائفية المتعسكرة، أو ما نسميه اليوم بالصراع المذهبي، أو الديني. والعجيب أن العرب الأوائل أدخلوا عاملا نفسيا في مفهوم الفتنة، فها هو اللسان يتحدث عن أحوال معينة، فهو يروي حديث (حذيفة) الذي يقول فيه، إن الفتنة «تشبه مقبلة وتبين مدبرة»، وإنها «تري القوم أنهم على حق حتى يدخوا فيها، فإذا أدبرت وانقضت بان أمرها». وهنا تشبه الفتنة الحرب فهي كما يقول منظرو الحرب تبدأ بضرب الدفوف والزهو والفخار، وتنتهي بأنعاش الموتى وبنار تكوي القريب منها والبعيد. وحين نترك الجانب اللغوي للمصطلح، فإننا أمام ظاهرة استفحلت في العقود الأخيرة، وهي وبلا شك نتيجة ضياع الأيديولوجيات والنظريات الجامعة للبشر وإحلال نظريات ودعاوى أيديولوجية تشرذمهم، وتضعف من قناتهم، وتفتح الأبواب لنذر الشر للانغماس في تفريق الصفوف، ليصبح الاختلاف المبدئي بالرأي أو القناعة، اختلافا أيديولوجيا عميقا يمكن لأي نافخ نار أن يصيب فيه «كيره» ويأتي بالحدادين ليدرسوا روابط الإخاء التي تربط المجتمعات الإنسانية. ومعظم المجتمعات المتأدلجة سواء في شرقنا الحاضر، أو في غيره تنقسم عبر الزمن، ليصبح الرفيق السابق عدوا لدودا، ألد من الأعداء الخارجيين. والطائفية نار صغيرة يستطيع الكثيرون أن يركبوا جماحها وأن يشربوا من ثمالتها ما لا يستطيعون أن يرووا به عطشهم. في الماضي كانت الأيديولوجيات جامعة شاملة، فالكل مسلم، والكل عروبي، والكل وطني. أما اليوم فقد تغير الحال، وأصبح المسلم يسأل عن مذهبه، قبل رسوله وربه، وأصبح العربي يسأل عن مكان إقامته وديانته، وذابت الأوطان في شقاق القبائل والعشائر الاجتماعية والمذهبية، وصار كل امرئ يفخر بانتمائه الضيق، دون أن يعبر المسافات التي تفصل بينه وبين أشقائه. هذا التخندق الفكري والأيديولوجي حري بأن يدفع المجتمعات إلى الاستقطاب والتنابذ. ومثل هذا لعمري هو مقدمة لشر مستطير وصراعات أهلية تمتص طاقات الأمة وتهدرها. وحرص المرء على الجماعة ووحدتها هو حرص كذلك على حرية الأفراد، وحقوقهم. وإذ ما نجحت المجموعات البشرية في حفظ حقوق الأفراد وصيانتها، فإنهم لن يلجأوا إلى مستفز أو حاقد يغرر بهم، ويدق إسفين الاحتراب بينهم وبين أهلهم. لذا فإن هذا الداء الوبيل إذا ما سمح له أن ينتشر فإنه قد يحرق الأخضر واليابس. فسلامة الأوطان من سلامة أفرادها ومن سلامة انتمائهم ووفائهم للتراب الذي يعيشون فوقه، وللوشائج التي تربط بينهم وتقوي من شوكتهم. حمى الله أوطاننا من الفتن والاستقطاب والاحتراب. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 119 مسافة ثم الرسالة